الفرق الوحيد بيننا وبين الأتراك أن حراكهم الشعبي تدعمه إرادة سياسية حرة، وأن الانفساخ الذي نعرفه لا يعرفونه، وحدود الكراهية التي تفصلنا عن بعضنا وعن العالم لا تفصلهم. وأن التمديد والتوريث والإجماع بالنسبة لهم خزعبلات من ماض سحيق، غادروه إلى جنة الديمقراطية والعدالة.
تركيا اليوم هي النموذج وهي القوة الناعمة، وهي فوق ذلك الحلم الذي نراه غير بعيد مكانا وإن كان يفصلنا عنه دهر من الشقاء والحرمان. تركيا هي البديل لكل المخاوف التي تنتابنا؛ فهي أولا لاعب وسطي في الساحة الاسلامية، لاعب لم يقيد نفسه بأيدلوجية متزمتة غارقة في مذهبيتها، تصادر إرادة الناس باسم الولاية والأئمة المنتظرين، أو تحشر الناس في عصور مضت وسجالات فقهية وعادات موروثة. وهي ثانيا ديمقراطية حقيقية لها وجه صبوح وملامح صافية، ولصناديق الاقتراع فيها لسان صادق لا يقدر أحد أن يزور إرادته. وهي ثالثا الممارسة اليومية التي تكشف لنا الفرق الشاسع بين زعمائنا وزعمائها، وتقدم دليلا دامغا على أن الذي تعانيه أنظمتنا من إسرائيل هو رهاب كامن في أعماقها، لا يستند لغير الوهم، رهاب متأصل فيه خليط من الجبن والأنانية وحب الكراسي والرغبة بتوريث السلطة.
لقد نجحت السياسة التركية ومجموعة المواقف التي اتخذتها مؤخرا في التأكيد على أمرين: الأول أن بديل المواجهة العسكرية حين تكون غير ممكنة ليس الخضوع، ولا المفاوضات المباشرة وغير المباشرة والاستسلام لليمين المتطرف الإسرائيلي، في دولة كلها يمين متطرف. والثاني أن الديمقراطية الصادقة هي المستند الحقيقي الداعم لكل زعيم يريد أن يحقق الإنجاز ويترك ذكرا طيبا بعد وفاته. فثمة فرق كبير بين الدجل والهلوسة، والصدق والعمل الواقعي. وفرق كبير كذلك بين زعماء يطلبون التمجيد في حياتهم من أفواه مكبلة بالخوف والضعة، وآخرين يريدون الخلود في ذاكرة شعوبهم.
تركيا البديل والتجربة الحية نجحت في الجمع بين الشرق والغرب، والإسلام والديمقراطية، والدين والعلمانية. وهنا أيضا يكمن أحد أسباب سحرها وعوامل الجذب في تجربتها. فهي لا تلغي التراث ولا تتنصل من هويتها، ولا تصدر نموذجا دمويا قائما على نبذ الآخر بكليته. وهي كذلك أفق سياسي يتسع باتساع التجربة الإنسانية، ولا يصادر الإرادة ولا يبطش بالعقل باسم الموروث، هذا الموروث الذي اعتدنا أن نقدمه ونقدسه كتلة جامدة، يختلط فيها الانساني بالمقدس، فنأخذها أو نتركها مرة واحدة، بما طاب فيها وما لم يطب. وهي –وهذا الأهم- لا تغرق في شوفينية قُطرية معزولة، تغذيها أنظمة تقتات على الفرقة والكراهية.
ليس غريبا بعد ذلك أن تصدر عنها الحرية وقافلة الحرية ومباديء الحرية والأحرار الذين اعتلوا صهوة المتوسط حاملين في جعبتهم حلمين: الأول هو حرية غزة المنهكة والمحاصرة منذ سنين، التي لم تُرهب مقاوميها الأبطال آلة البطش الاسرائيلية، ولم ينجح الحصار العربي ولعبة المعابر في استئصال شعلة الحياة ورغبة الشهادة من أرواحهم. والثاني هو حريتنا نحن، حرية الفرد الذي يجد نفسه مقهورا، بلا إرادة ولا قيمة، المحاصر بالخطوط الحمراء والمعاهدات والمبررات والعسف، ثم لا يجد بعد ذلك إن أراد اتخاذ موقف يرضي ضميره إلا الهرب من ضيق الأوطان إلى فسحة المتوسط، ومن جور العروبة إلى عدالة الأتراك، والقبارصة واليونانيين.
هل تصيبنا العدوى؟ هذا هو السؤال الذي علينا أن نبحث عن إجابته قبل أن تقتلعنا جميعا رياح السماء الإسرائيلية....
samhm111@hotmail.com