قبل ذي بدء، عليّ أن أعتذر لكل من يرى في نفسه فراغاً عاطفياً لا يملؤه رابط لطفل أو زوج أو أسرة أو مجتمع لم نعد كأفراد به نتحرى دفء المشاعر، ولكن ما لا يترك لنا أي مبرر للاعتذار هو هذه الموجة العارمة من مشاهد احتضان النساء والرجال للكلاب من شتى فصائلها، صغيرا كالأرنب أو ضخما كالوحش، حتى بتنا نرى أن الكلاب في شوارع العاصمة عمان تنبُئك بانفراط عقد الأسرية لدى ذلك الجمع الذي يحرص على رعاية الكلاب أكثر من رعاية أبنائهم، وشيئاً فشيئاً أصبحت رؤية السيدة تقود مركبتها المتهالكة في صف صاحبة الحظ السعيد بسيارة فارهة وكلتاهما فرحتان بكلبيهما يخرجان رأسيهما من النافذة.
ليس هذا فقط، بل أن هناك بيوتاً تخصص خادمات لرعاية الكلاب اللطيفة، وهذا ما رقبته قبل خمسة عشر عاما وأكثر، ويشترون لكلابهم طعاما مخصصا ويراجعون به عيادات الأطباء البيطريين وينفق عليها ما لا يجده فقير في مجتمعنا البلدي ليقيم به أوده، في المقابل نرى البعض ممن حُرموا الشيمة وبرّ الوالدين وضاقوا بهما ذرعا وهم يضعون عجائزهم من آباء وأمهات في بيوت رعاية المسنين، حيث لا يجدون من يمسح على رؤوسهم البيضاء شيباً ولا من يحتضنهم على صدر رؤوم، ثم نسأل مستنكرين ما بال صدورنا ضاقت بها الأرض بما اتسعت.
هذا المرض المستشري بصفته تقليداً مستورداً من مجتمعات غربية لا روابط أسرية في أغلبها بات مقلقا، خصوصا مع حرمة دخول الكلب للبيت إلا للحراسة، ليس من ناحية متغيرات المجتمع ولا ميزانية النفقات وأسعارها الباهضة، بل بذلك الفراغ الوجداني والروحاني والإضراب عن القيّم التربوية والتشجيع على القراءة والانخراط في الخدمة المجتمعية العامة، حتى امتلاك الكلاب والقطط المنزلية في العالم المتحضر له ضوابطه، فغالبية كبار السن هناك يمتلكون كلاباً مدربة لتقودهم وتساعدهم على مقتضيات حياتهم وفي تنزههم خارج المنزل.
من عمان تسلل هذا المرض التقليدي لبقية المدن، وهناك كوارث اجتماعية هجمت علينا بأخطر من الفيروس، حيث ترى صبياً أو صبية يقودون سيارات فارهة ثمنها يتعدى مئة الف دينار وأكثر، ورأيت أحدهم يقود إحداها بسعر يفوق نصف مليون دينار، اللهم لا حسد، فيما عامل الوطن الذي يناوب اربعاً وعشرين ساعة يحمل مكنسته في شارع الصبي والشمس تأكل من رأسه الذي رضي بما قسم الله له، وهنا لا يحسبن أحد أن حديثنا نابع من حسد أو غيرة، بل إن في قُـُرانا التي كانت ولادّة للزعماء النُجب وأرضاً للقمح والخيرات دون بذخ ولا تكبرّ، نرى كيف يقود الأولاد سيارات لو اشتغلوا العمر كله ما جاءوا بنصف اثمانها، حيث حولهم الآباء والأمهات من مشاريع رجال الى مبذرين لمستقبلٍ سيكونون فيه عالةّ على أنفسهم.
وبمناسبة الحديث عن الكلاب وأصنافها ووفائها، فتحضرني قصة عن أحد باشوات بغداد في الزمن القديم، إذ زاره أحد شيوخ البادية وبعد التكريم وجريّ الحديث سأل الباشا الشيخ: «كيف تعيشون في البادية بأغنامكم وبيوتكم بلا أبواب؟ فأجابه الشيخ: نحن نعتمد على الكلاب لحماية مضاربنا ومواشينا، فاستقام الباشا وقال: ها، كم تطعمونه لحماً هذا؟ الشيخ: كلما أولمنا نرمي له ما تبقى، فنهض الباشا ونادى الخادم: هات لي الكلب، وإذ به بحجم الأسد وأخذ يتمسح بساق الباشا الذي قال للشيخ: هذا الكلب نطعمه كل يوم نصف ذبيحة ولا يوم نبح على حرامي واحد».
Royal430@hotmail.com
الرأي