نكهة الخمسينات تضج في فضاءات الأمكنة، وشذا المد، قومي الحركات والإتجاهات.
أتساءل في هذه الثمان العجاف ما الذي تغيّر حتى تنحسر الفكرة نحو إقليميات ضيقة، كيف أذعنّا للتراجع، وكيف أعدنا التموضع في منتصف المتناقضات.
أيها الغائب، تمر الدقائق طويلة على العالم التائه الملتاث. يقتتل الناس في حواريه وقد ضاقت عليهم، فتغرب الشمس وتشرق على معارك هزيلة الخاسر فيها هم جميعا.
كانت دمشق وبغداد والقاهرة، عواصم الرايات العالية، وحواضن العروبة ومسارحها المفتوحة، صارت اليوم ملاعبا للقتل والجوع وقد أشكل على الناس هناك دروب العيش، وضاعت في أزقة اللقم أحلامهم، وشيئا فشيئا، يتلاشى وشم المعاصم وتغدو الزنود القوية محض أقلام سافرة الرؤوس.
كانت الشوارع تضج بالعروبة وقتال المبادىء وصرخات الثوار. كانت عصب الأمة ومنتهى الآمال، في الديمقراطية والرفاهية والتحرير. واليوم أضحت كل المسالك، ضيقة حيث يذهل الضجيج عن تثاؤب المساءات، وحيث يُنهك ظل القامات خماص البطون، ويواظب الجوع على خفارة العقول، فيطول أوان النضج وتختفي الشراسة والخطابات وضرب الأرض بأقدام الغاضبين.
ليس ذاك وحسب، لقد تلاشت فكرة العروبة وانقطع عصب القومية، واجتهد الغزاة على العواصم فأنهكوها واخترقت سهامهم الهوية الجامعة، فأضحينا مقتتلون على الهويات الفرعية وكفاح الفقر والجهل وصراع البقاء.
لا أحد، في كل الأزقة يكترث ببضاعة البائع الجوّال. يملأ صراخه فضاءات الأمكنة ويُعبأها بالضجر، لكن القوم منهكون. خيولهم مستكينة وأرسانها على الغوارب دون حمحمة ولا صهيل، ويتساءلون، هل يمكن للديمقراطية أن تعيد إنتاج فكرة العروبة وترميم الإقتصاد.
ليس في أحسن الأحوال. يجيب الصدى، فيبقون، مثل كل السائرين دون أهداف، يترعوا الشوارع ويغمروا الطرقات. لم يكن بوسعهم حين تنحدر الشمس نحو الأفق القاتم، تبليط البحر، وكذا، مشوا أياما وليالي في قفار أرواحهم ومفازات أحلامهم، لا زاد سوى القلق ولا مؤونة سوى الإضطراب.
سائرون بتؤدة وصمت، حيث تمشي الدقائق والساعات رتيبة مملة، وحيث يلجم السَغاب ألسنة الخطباء المفوّهين، حيث تقتل الفكرة في وغى الجوع، وتجندل المبادىء في ساحاته الفسيحة.
دون طريق واضحة المعالم، يمضي هذا الجيل وسط المآزق والمشكلات، لا حلول لمعاضلهم في الأفق القاتم، فهل ستكون حظوظ الاجيال القادمة أكثر عدلا وإنصافا؟