من وحي المئوية (20) السجل الذهبي للمئوية
د. جواد العناني
27-06-2021 01:16 AM
يبدو أن قائمة أسماء المكرمين في المئوية الأولى والتي يرى أصحابها أو المتحمسون لهم لن تنتهي. وأنا أتلقى المكالمات والمراسلات التي تأتيني بهذا الخصوص بصدر رحب، وقلب مفتوح، وأشكر كل من اتصل بي. وقد دفعني هذا الوضع إلى أن أعود لأطوف في تاريخ الأردن العتيد، وأحياناً أسافر على آلة الزمان لألف سنة وأكثر. وجميل أن نربط أجزاء من تاريخنا العربي بما يجري الآن.
لو فكر العرب والمسلمون أن يخترعوا آلة الحاسوب لفعلوا ذلك بسبب توافر العناصر الأساسية المطلوبة، أولها الخوارزمي واضع جدول اللوغارتمات، وسميت باسمه هي مرتكز عمل الكمبيوتر أو الحاسوب ولغته تسمى (Algorithms) نسبة إليه، علماً أن البعض يقول إن مكتشف اللوغارتمات والمتواليات الهندسية هو العالم العربي الجزائري ابن حمزه المغربي.
وثانيها أن العرب هم من اهتموا بالفهرسة والتصنيف، وقدموا للبشرية أهم الكتب التصنيفية بدءاً من القواميس اللغوية، إلى علم العروض، إلى كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، إلى معجم البلدان لأبي ياقوت الحموي، إلى زهر الآداب وثمر الألباب لأبي إسحق القيرواني، وغيرها الكثير الكثير وعلى الأخص كُتب الأحاديث النبوية بدءاً من الموطأ ومروراً بالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن دقيق العيد وغيرهم. ونحن نعلم أن تبويب المعلومات والمعارف وبنوك المعلومات والحوسبة هي من أهم وظائف الحاسوب وفضائله، والتي يسرت الوصول إلى المعلومة.
وثالثها هو أن العرب هم الذين قدموا الصفر لأوروبا علماً أن الهند تقول هي التي فعلت ذلك. وعلى أية حال، فإن الصفر قد غيّر كل الأسلوب اللاتيني العقيم في كتابة الأرقام. وبادخال الصفر أصبحت قاعدة (صفر واحد) هي المرتكز التي تقوم عليه لغة الكمبيوتر.
ولكن العرب مع الأسف لم يتابعوا هذا الأمر ويحولوه من علم إلى تكنولوجيا مطبقة، بحيث تترجم إلى آلة كالحاسوب مع أنهم اتقنوا صناعة الآلات مثل البوصلة، وساعة الزوال أو الظل، والأسطرلاب، وغيرها.
ومن الكتب المفهرسة الرائعة، هو كتاب «وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان» والذي لم يُذْكر فيه عظماء المسلمين والعرب من صحابة وخلفاء، حيث اقتصر كما يقول المؤلف على شخوص اختارهم لهذه الغاية.
ويقول القاضي ابن خلكان في مقدمة كتابه، مفسراً أسبابه لتأليف الكتاب الذي تناول سيرة (850) شخصاً ما يلي:
«هذا مختصر في التاريخ، دعاني إلى كتابته أنني كنت مولعاً بالاطلاع على أخبار المتقدمين من أولي النباهه وتواريخ وفياتهم وموالدهم، ومن جمع منهم كل عصر فوقع لي منهم شيء حملني علي الاستزادة وكثرة التتبع، فعمدت إلى مطالعة الكتب الموسومة بهذا الفن، وأخذت من أفواه الأئمة المتقنين له ما لم أجده في كتاب».
وقد قلد هذا الكتاب آخرون مثل كتاب ابن حجر العسقلاني الموسوم بِـ «الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة».
وقد أشرت في مقالي السابع عشر إلى كتاب د. مايكل هارت، الأميركي بعنوان «ترتيب المائة شخص الأكثر تأثيراً في التاريخ». والذي نشر عام 1978، وأعيد نشره بعد التنقيح عام 1992. وهنالك كتب مشابهة كثيرة في لغات العالم المختلفة.
ويقال - والله أعلم - إن ابن خلكان كتب عن أحد الأعيان كلاماً فيه ذم وقدح أكثر مما فيه مديح واطراء. والسبب كما يقال إن أبناء هذا العين دفعوا لابن خلكان مبلغاً من المال ليورد اسم ابيهم في الكتاب. فقبل شرط أن يلتزم بالأمانة العلمية في النص. ورضي أبناء ذلك العين بذلك. ولما دقق في تاريخ الرجل، وسأل عنه من عرفوه أو سمعوا به، وجد إن اجماع هؤلاء كان على عدم نبله وبخله وتنصله من عقوده ووعوده عندما تلامس مصالحه. فلم يجد ابن خلكان بُداً من أن يصف الرجل بالسمات التي حصل عليها من بحثه الاستقصائي عنه. ولعل أبناء ذلك الرج? اصيبوا بخيبة أمل ما بعدها خيبة، وقد مات القاضي ابن خلكان فقيراً معدماً رغم غزارة علمه وتنوع مؤلفاته، وكثرة المادحين لأعماله.
وفي هذه الأيام، يقوم عدد كبير من الناس بوضع كتب عن سيرهم، أو يقوم أحد من أقاربهم أو أزواجهم بتكليف باحث أو كاتب صحفي بوضع كتاب سيرة عن حياتهم. ومن المتوقع أن تصدر كتب جديدة عن المرحوم نعيم عبدالهادي الذي كان يعتبر من الوطنيين الأحرار ورفيقاً لابن عمومته المناضل والوزير والمحامي عوني عبدالهادي. وكذلك يقوم الدكتور الطبيب يوسف القسوس باعداد كتاب عن حياته. وأنا سأقوم بوضع كتاب عن والدي أحمد العناني الأستاذ والمؤرخ والأديب الأريب. وكذلك رأينا كتب سير أو أجندات قد وُضِعت عن عدد من السياسيين. وهنالك آخرون يرفضون ?لكتابة لأنهم يعتقدون أنهم لا يستطيعون الَبْوحَ بكل ما يعرفونه، وهم لذلك يفضلون الصمت. وهذا في رأيي عذر غير مقبول.
والكتب التي تشكل سيراً لأشخاص بأعينهم مفيدة جداً لأنها تعطينا وجهات نظر متباينة أحياناً حول نظرة صاحب الكتاب للقضايا المهمة والمفصلية التي مرت بها البلاد، وكان صاحب الكتاب جزءاً أساسياً منها، وهنالك أمثله كثيرة على ذلك مثل عملية السلام، والعلاقة مع العراق الشقيق، وحرب عام 1973، وأحداث عام 1970، وقصة بنك البتراء، وخط الأنابيب النفطي الذي تراجع الرئيس صدام حسين عنه بعدما وقعَّ الأردن والعراق مذكرة تفاهم حول تنفيذه، ودور بعض الدول في ذلك، والقصص كثيرة.
ولكن الأهم من كل هذا وذاك هو أننا بحاجة إلى محايدين علميين يكتبون ذلك التاريخ، حتى تلغى اللاموضوعية الناجمة عن الرغبة في الدفاع عن النفس في هذه القضايا. ولذلك أرى أن من الواجب أن تشكل لجنة لكتابة تاريخ الأردن على غرار ما حصل في القرن الماضي عندما هوجم دور الأردن من قبل رجال بارزين مثل محمد حسنين هيكل وغيره في حربي عام 1948 و1967، والثورة العربية الكبرى وغيرها، وقاد الأردن حملة لاعادة كتابة تاريخ بلاد الشام شارك فيها بفاعلية الأمير الحسن بن طلال ودعمه فيها نخبة من المؤرخين والباحثين العرب أخص منهم بالذكر ال?ستاذ الدكتور محمد عدنان البخيت والمؤرخ العراقي الكبير الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الدوري. وكلاهما يستحق التكريم.
وقد كانت الندوات والمؤلفات التي وضعها عدد من المؤرخين المرموقين نقطة توضيح وجلاء لموقف الهاشميين المشرف من مختلف القضايا العربية بدءاً من الثورة العربية الكبرى ونهضتها، وانتهاء بالموقف الرفيع للملك الراحل الحسين بن طلال في الحروب التي خاضها الأردن في عصره. والسلام الذي وقعه بموافقة غالبية شعبه.
وبما أن عدد الذين كرموا وقد بلغوا مع من كرموا من نشامى القوات المسلحة الأردنية والأجهزة الأمنية ما يفوق مائتي شخص، وانا اقترحت اضافة حوالي خمسين شخصاً آخرين، وواثق أن هنالك أعداداً أخرى تستحق أن تذكر وتكرم. ولذلك، فأنني أقترح أن يقوم جلالة الملك بتكليف مجموعة من الباحثين المحايدين باختيار ألف شخص من الأردن لكتابة سيرتهم الذاتية المختصرة، وأسباب ذكرهم في سجل المئوية الذهبي في ضوء انجازاتهم ذات الأثر البعيد. وهكذا نبرز دور الأردن، ورجالاته ونسائه الذين ساهموا في بنائه على مدار مائة سنة.
وقد يتساءل البعض أليس ذكر ألف شخص كثيراً، فأقول ليس كذلك. فالدولة التي خلقت بمقومات قليلة فأصبحت كبيرة بانجازها وانسانيتها وكرامة أهلها وروعة قيادتها، وتآلف شعبها، لم تنجز من نفر قليل، بل أكاد أجزم أن الرقم قد يتجاوز عشرة الاف إن لم يكن أكثر.ولكن يجب على هذه اللجنة أن تضع في البداية أسساً ونظام تنقيط يحكم بها على الأشخاص المستحقين لهذا التكريم. ومتى ما وضعت منهجية التقويم فلا يجوز بعد ذلك تعديلها، أو ادخال إضافات إليها أملاً في ادخال أشخاص أو اخراجهم منها لصالح آخرين. وأن تكون اللجنة كالعدالة عمياء لا تحكم?على الأشخاص إلا من منطلق انجازهم.
ومن الأفضل أيضاً تحديد الفئات والقطاعات والتخصصات التي يتم اختيار الأشخاص منها. وهذه يجب أن تكون شاملة مستوعبة، إذ أن الابداع لم يحصر في فئة، ولا في تخصص، ولا في قطاع عام وحده أو قطاع خاص، ولا في المتعلمين أو من حملة الشهادات الابتدائية. ولا يهم إن كان من معان أو الطفيلة أو اربد أو عمان أو القدس، وليس الشهرة هي المقياس، بل الانجاز العملي. وإذا طبقت المعايير بدقة فسنرى أن النتيجة ستكون متوازنة بطبيعتها ولا يمكن اتهامها بالتحيز لفئة على حساب أخرى بغض النظر عن تعريف الفئة المعنية جغرافياً أو دينياً أو أشقر أو?أسمر.
وعلى الذين يُكلفون بهذه المهمة أن ينهوا العمل المطلوب خلال فترة ما قبل السنة، ويودع هذا السجل الذهبي في مكان بارز، ويكون موشحاً بارادة ملكية. وينشر أسماء المكرمين في الجريدة الرسمية. وأن لا يكون أعضاء اللجنة من جملة المكرمين إذ يكفيهم تقديراً عضويتهم في اللجنة.
وماذا لو أن هذا المقترح لم يجد الصدى المطلوب؟ وماذا لو أن أحداً من المتنفذين رأى أن هذا سيفتح بوابة من النقد والاحتجاج من قبل كثيرين رأوا فيه ظلماً لفئتهم أو لرجالاتهم ونسائهم. أقول وما الجديد في ذلك؟ الناس تحب نفسها وتحب أن تفتخر بالمنجزين من أهلها. ولكن هذا وحده لا يكفي، بل لا بد أن يقوم الدليل على ذلك الانجاز.
وَمَن خَيرٌ من فئة مختارة من الناس، موصوفة بالموضوعية تقوم بهذا الجهد النبيل تكريماً للتميز في بلد جاءت أعظم انجازاته على يد قيادة تعرف من تختار لتنفيذ سياساتها وقراراتها في مختلف القطاعات والمواقع. أليس في هذا حفزٌ للابداع، وحفزٌ للتميز. ومتميز واحد ومبدع واحد قد يقدم لبلده بسبب اصراره وعزيمته رغم النقد الذي قد يطاله في سعيه للانجاز.
والجواب على السؤال الذي أثرته: ماذا لو لم يكن هنالك تجاوب؟ فإنني سوف أخصص جزءاً من وقتي لأضع بنفسي هذا السجل الذهبي، مستعيناً بآراء من أؤمن بهم وبمهنيتهم وموضوعيتهم عند اختيار الأشخاص الذين أراهم مؤهلين لذلك. وسأضع المعايير والمرجعيات الواضحة لسبب اختياري لهؤلاء الرجال والنساء. وأطلب من الله العلي العظيم التوفيق والسداد.
الأردن كما قلت في مقالتي رقم (19)، بلد متعدد الأبعاد، وله تركيبه معقدة، ولا يغرنك عفويته وبساطته أحياناً. والناس فيه أذكياء، ويعرفون كيف يروجون لأنفسهم من خلال ابعاد الأردن الستة. ولو خير لنا في هذا الوطن الغالي أن نعترف بالاختلاف، ونسعى للوفاق والتوفيق، فإننا سنجعل من جهودنا طاقة فواقة قوية، تنتج نوراً وأفكاراً، وتنبت فرصاً لا نهاية لها. آن لنا أن ندرك مدى طاقتنا، ومقدار ما نستطيع انجازه، ونبدأ ذلك بالاعتراف لأصحاب الفضل بفضلهم.
الرأي