الله ، يا أبا عزمي.. كم هي ثقيلة هذه اللحظات ، فأنا أكتب عنك في لحظة فُراق ، وهذا ما لا أطيقه ، ولا يستوي معه منطق ، فالأب لا يموت ، والأيام الحلوة لا تنتهي ، والناس الرائعون لا يرحلون ، وقد كنتُ لي أباً ، وعًشرة آسرة ، وحجر زاوية في بناء صار عُمراً سينتهي ، كما تنتهي الأعمار الطيّبة بقسوة لا تحتملها النفوس ، وغيابك يا حبيب هو غياب روح.
وهي لحظة تاريخية قد يحلو الموت فيها ، لو كان في موت حلاوة ، فأمّة عربية مثّلت لك في ضميرك عُمراً كاملاً تموت في موقف لا تقدر فيه إلاّ على الشجب والتنديد ، ومشاهدة نفسها في مهانة لا تنافسها فيها مهانة ، ومجزرة جديدة تُرتكب في وضح ليل العرب ، لتقوم قيامة الروم ، ولا تقوم لنا قيامة.
ولكنّها لحظة تاريخية تستأهل التسجيل ، فلا تعرف نفس ماذا تكسب غداً ، ولا تعرف نفس في أيّ أرض تموت ، ولكنّ رحيلك كان يُسجّل سابقة سيذكرها كلّ الناس ، فحبيبتك "الرأي" ستحتفل غداً بذكرى صدورها ، وأنت لم تعرف عُمراً لا قبلها ، ولا بعدها ، ولم تعرف حباً غير حبّها ، وأظنّك أحببت لهذا الموت أن يُعيد التذكير بحياة متدفقة لصحافة كانت عنوان حياتك بأسرها ، بأسر أسرها.
وأتصوّر حياتي لو لم يكن فيها محمود الكايد ، لأجد دنيا مختلفة تماماً عمّا عشت ، قد تكون أيسر وقد تكون أعسر ، ولكنّها لن تكون أنا ، فهو الذي تناولني من حمّ الخليج إلى حميمية عمّان ، وهو الذي قسى عليّ كأب يعرف مصلحة الصغير ، وأنا الذي تمرّدت عليه فعاندته ، وصارعته ، فصرعني وصرعته ، لأكون كما أنا الآن ، صنيعة إثنين: إبراهيم سكجها ، ومحمود الكايد.
أبو عزمي كان لي مثل أبي باسم ، ولو أقلّ قليلاً بحكم الدم ، ولو أخذتني الكتابة إلى الذكريات فكثيراً ما أردت ترك "الرأي" في بداياتي المتمردة ، لقسوة الكايد عليّ ، وكان إبراهيم هو الذي يثنيني ، وحين كان يشعر بإصراري ظلّ يستخدم سلطته الأخلاقية العفوية ، فكما صار أبو عزمي لي أباً كان بالنسبة لإبراهيم أخاً ، وقد يكون أكثر من ذلك بكثير.
هي كلمات سريعة لا أقدر إلاّ أن أكتبها عن الحبيب الذي رحل ، وهي كلمات ستلحقها جمل وفقرات وفصول وكتاب ، ففي يوم قدّم لي كتابي عن الصحافة ، وذكّرني فيه في المشفى الذي لم يُشف ، ويبقى الكثير الكثير ، ولكنّني أنهي هنا لظروف يعرفها أبو عزمي جيداً ، فعلى الصحيفة أن تذهب للطباعة.
(الدستور)