جدتـي .. والدَّيــن العـام
العميد المتقاعد م. أحمد الحياري
21-06-2021 06:57 PM
كانت جدتـي تقـول : " على قـد لحالفـك مد رجـليك ".. " اللي مـا مـعهوش ميلزمهوش ".. " اللي عـنده قطيـن بوكـل بإيـديه الثنتيـن "
جدتي لم تنخـرط في السياسـة ولا فـي العمـل العـام ..ولم تكن من أصحاب المؤسسـات الاقتصاديـة التي تتحكـم برؤوس البسـطاء من أبنـاء هذا البـلد ..جدتـي حاصلـة على شهـادة الدكـتوراه في إدارة الأزمـات الماليـة , وتقـلدت وسـام " المدبِّـرة الأولـى " في تيسـير أمور الراتـب . ولهـا منشـورات في مجـلَّات عالمـية عديـدة مختصـة بالاقتـراض وتبـادل المنافـع مع الجَّـارات .
كانـت سياسـة جدتي ناجعـة .. وكانـت تتعامـل مع الأزمـات بحكـمة بالغـة تفضي إلى عـلاج ورأب الثقب قبـل اتسـاعـه ..وكانـت جدتـي تمـازج بيـن الضـرورات والأولويـات .
ولم يحـدث أن أدخلتنـا جدتـي فـي اضطرابـات وكـوارث ماليـة تتعـدى قـدرات الأسـرة علـى إيفـاء التزاماتـها , أو اضطـرار أفـراد الأسـرة إلى تغـيير سـلوكياتها في كـافـة الجوانـب الحـياتية.
وكـانت تـدابير جدتـي تراعي الإبقـاء على حـالة الوقـار والاحترام لأعضاء الأسـرة وموقعهـم أمـام باقـي الأسـر ولا تبيـح لأيٍّ كـان الإقلال من مكـانة العـائلة أو السـيطرة على قراراتهـا وابتزازها لاغتصـاب أي مـن مـقدراتهـا .
رحـم الله جـدتـي ورضي عنهــا وتقبلهـا قبـولًا حسـنًا..
كـان اليـوم الـذي توفـيت فيه جـدتـي العـلامة الفارقـة فـي حـياتنا وحيـاة جميـع أفـراد المجتمـع الأردنـي علـى حـد سـواء , حـيث تزامـن مـوت جدتـي مـع مـوت الحـكمـة والـرَّشـاد وحسـن التـدبير لـدى كافـة الحكومـات .
أمسـينا ( ولا أقـول أصبحـنا ) نعتقـد أن الحكومـات فقـدت البوصلـة والتـمييز فـي أهـم مبـادئ القيـادة . ولا تحسـن التـدبير في تحديـد أولويـات المرحـلة , والتـي تبقـي خيـار الاسـتمرار والمضي قدمًـا لمتابعـة باقـي الإجـراءات في عمليـة إنقـاذ الاقتصـاد الوطنـي وخروجـه مـن غرفـة الإنعـاش , والتفكـير بإبقـاء وسائـل بواعـث الحيـاة والتي تكون مقـدمة للمضي قُدمًـا للتَّعافـي والنجـاة.. والتخطيـط للعودة إلى مسـار المواكبة والحداثة ونشـر مظاهر التـرف إذا قُدِّر لنا ذلـك .
إلا أن الحكومـات لم توقف الاسـتمرار بإقامـة المشاريع الحضارية والإنمائية الكبيرة ومواكبة التطوير والحداثة وامتلاك التكنولوجـيا والتوسـع في مظاهر التـرف من بنيـان شاهـق ووسـائـل عـصرية تبـارز وتباهـي دول النفــط وتناظـر الدول الصـناعية , وتفوقـت على كثير من الدول التي تعـرف حجمهـا .
وهنا يحضرنـي قـول عـمر بن عبد العزيز : " رحـم الله امرئٍ عـرف قـدر نفسـه " عندمـا طلـب مـن ابنه بيـع الخاتم الذي اشـتراه بألـف درهـم وإطعـام ألـف جائع وشـراء خـاتم مـن حـديد ونقـش العبـارة عليـه .. والتي أصبحت من الأقوال الشـهيرة لأصحـاب العقـول الحـاذقة .
وهـنا نتســاءل.. ألا تعلم الحكومـات أن المؤسسـات العالميـة المانحـة للقروض لهـا ارتباطات وجذور مع صنـاع القرار السياسـي .... وأن أبجديات السياسـة العالميـة التنافس لوضع اليد والسـيطرة على الدول بشتى الـطرق , والتحكم في إدارة شؤون الاقتصاد وصولًا إلى السـياسة وايدولوجيـات المجتمع بكـافة تفاصيله.
وقديمًا كان تحقيق ذلك باستخدام الآلة العسكرية.. وأن المعادلـة الجـديدة أصبحـت بخلـق حالة مـن الاحتيـاج العـام.. وتطويـع الحكومـات والشـعب وترسـيخ مفهـوم مواكـبة الحـداثة والانجازات , وأنها مقيـاس النجـاح والتميـز عن باقـي الحكومـات.. وخلـق حالـة شغـف فـي الحصـول علـى الرفاهـية وامتلاك التكنولوجـيا.. والطـريق الوحـيد المتـوفر لنيـل ذلك المزيـد مـن الدَّيـن ومزيـد مـن الالتزامـات مما يفضـي إلى الاتكاليـة والتبعيـة القسـرية.
وإذا افترضنـا حسـن الظـن بالحكومـات.. وأنه لا توجد أجندات خاصـة وراء إقامـة المشـاريع الإنمائيـة التي ظاهرهـا مواكـبة الحضارة , وخدمـة البـلد وتسـاهم في تيسـير حيـاة المواطـن.. وتضع الأردن في مصاف الدول المتقدمـة.
ومع ذلك.. تبقـى التســاؤلات !هــل وصلنـا إلـى القـوة الاقتصـادية والمـلاءة الماليـة التي تؤهلنا لإنجاز ذلك !! وهــل لدينا القدرة على الوفاء بالسـداد دون أن يترتب على ذلك انتكاسـات اقتصاديـة !! هــل تستحق هذه الإنجازات جعل الدولة أرضية خصبة لتقديم التنازلات !!!أليــس جليًا أن هذه الإنجازات تعمل على زيادة المديونيـة وتكديــس الالتزامـات وتراكـم المبـررات الغيـر مقنعـة !! ألا تعلم الحكومـات أننا وصلنا إلى سـقوف تتجاوز طاقتنا وطاقـة أبنائنـا وإذا تسـنى لهـم الزواج تتجـاوز طاقـة أبنائهـم أيـضًا !!
وكذلك علينا النظـر إلى التشـوهات التي ترافـق لبـاس الثـوب الذي لا يناسـب وضعنـا ولا يعكـس حالنـا.. لأن المديونيـة هـي نــوع من الاســتعمار الفكـري والاجتمـاعي.. الذي يسـعى لفرض تغيير كثيـر من المعتقـدات الدينيـة والمظاهـر الاجتماعيـة المعنيـة بلحـمتنا وترابطنا.. وتحاول نشـر كل أدوات الانحلال والتفكك.. وترسـيخ ســلوكيات مجتمعية تعتمد على التعلُّـق والارتباط بالحداثـة والتكنولوجيـا..وخلق مجتمع " براغـماتي " يسـعى لامتـلاك الاحتياجـات والمنافـع بعـيدًا عن المبـادئ والمُـثُل مخالفين العـادات والتـقاليد .
والسـؤال كيف نخـرج مـن هـذا المـأزق.. !!
أولًا .. على الحكومـات تقديم ميزانية أساسها وقف النزيف وجدولة رتـق الثـقوب والحـرص على تقليـص المديونيـة لا تناميها .
ثانيًا .. تنفيذ وتطبيق سياسـات تقشـُّفية إصلاحـية.. حقيقيـة تُشَـاهد وتُلمَـس نتائجها على أرض الواقع . وليـس تنظيرًا وصَف أحـرف للحـصول على الثقة .
وبعـيدًا عن الدبلوماسـية نقول للحكومـات..
كــفى انجازات.. كــفى استغفال.. وكــفى حداثة.. وكــفى مواكـبة.. وكــفى وكــفى ..
وهـنا نتســاءل ..
ماذا لو توقـف الزمن قليـلًا ..
ماذا لو أخذنا اسـتراحة من الاسـتمرار باخـتراع مبـادرات ومشـاريع لا نملك من متطلباتهـا وإمكاناتهـا شـيئًا .
وللأمانة العلميـة.. هـل تعـتبر هـذه الاسـتراحة رجعيَّـة وتخَلُّـف .. أم تعتبـر هُـدنة لإنقـاذ مـا يمكـن إنقـاذه.. سـؤال يُجيب عليه قـادم الأيـام .
ومن أجـل أبنـاءنا وشهـادة التاريـخ نقـول ..بالله عليكم يا حكومـات .. دعـونا نلتقـط أنفاســنا.. دعـونا نعيـد حسـاباتنا.. أوقفـوا انجازاتكم الوهمية.. أوقفـوا تزايـد المديونيـة.
يا حكومـات.. اسـتيقظوا يرحمكـم الله .اقتربنـا من الســقوط في الدرك الأسـفل مـن الهــاويـة .
رحمك الله يا جدتـي