من التقاليد المستقرة في عالم الإدارة أن يتم الوصول للوظائف القيادية وغير القيادية في الدولة استنادا لمعايير الكفاءة والجدارة، ووفقا لأسس شفافة ومعلنة يتقدم في ضوئها المتقدمون، ويتنافس المتنافسون. المنافسة الشريفة على المواقع العامة أضحت ديدنا لأجهزة الموارد البشرية والخدمية في دول عديدة في العالم، وتطمح نسبة معتبرة من الأردنيين إلى تطبيق هذا المبدأ الراقي في التعيينات الحكومية والخاصة بعيدا عن المحسوبية والواسطة واعتبارات غير مهنية أقل ما يقال فيها أنها ظالمة ومجحفة، ليس بحق الوظيفة العامة فحسب، ولكن أيضا بحق الموظف الذي يتم تعيينه بغير وجه حق في عمل لا يتقنه وليس أهلا له.
سقنا هذه المقدمة لنبرز خطورة ظاهرة تستشري في مجتمعنا وخصوصا هذه الأيام التي يتوقع فيها وخلالها الولوج في مرحلة الإصلاح السياسي والإداري الذي بدأ بتوجيهات ملكية. هذه الظاهرة تتعلق بكثافة الدعوات والمآدب التي تقام على شرف موظفين عامين كبار ونواب منتخبين بقصد التأثير عليهم، والحصول على مواقع قيادية ومكاسب في الحكومة أو في المؤسسات المستقلة أو الجامعات.
لا أعلم ابتداء كيف تنطلي تلك المقاصد الخاصة والشخصية الضيقة على المسؤولين الكبار فيلبون هذه الدعوات والمآدب، مما يعطي إشارات ورسائل للأردنيين أن الدعوات الخاصة و"العزايم" يمكن أن تعطي أكلها وثمارها انطلاقا من القول المأثور "اطعم الفم تستحي العين".
وهنا أتساءل كيف يمكن للأردنيين قراءة هذه الرسائل وملائمتها مع التوجهات الإصلاحية للدولة الأردنية التي يقودها جلالة الملك؟ لا أعلم كيف يمكن أن تقبل شخصية عامة حكومية أو نيابية دعوة خاصة ولا يعلم من هم الحضور، وما طبيعة توجهاتهم ،وفيما إذا كانت الدعوة هي مجرد "كمين" أو "شرك" نصب له للإيحاء للناس بأن صاحب الدعوة قريب من السلطة ومن أولي الأمر؟ لا أعلم كيف يمكن أن يقتنع الأردنيين بأن قواعد اللعبة وأسس التعيين لا علاقة لها بالمأدبة التي أقيمت على شرف هذه الشخصية العامة؟.
هذه الظاهرة اللعينة تستدرج بعض المسؤولين لتلبية دعوات ظاهرها رحمة وباطنها عذاب، مما يضعف ثقة المواطنين ببرامج الإصلاح ومقاصده، ويجذر من أجواء عدم الثقة بما تقوله الحكومة ويصرح فيه المسؤولين عن الحصافة والنزاهة ودولة المؤسسات والقانون.
المؤسف لا بل الأخطر في الموضوع هو أن معظم الدعوات والمآدب التي يدعى إليها المسؤولين تنخرط بها نخب ثقافية أو أكاديمية كان المفترض أن تكون الأكثر حيادية ومهنية والأكثر بعدا عن هذه الأمور التي يشتم منها التزلف. محير أمر هذه النخب الثقافية والأكاديمية التي حصلت على أعلى الدرجات العلمية وجابت معظم دول العالم، وتخرجت من جامعات عريقة. كيف يمكن لهذه النخب النكوص والتراجع عن القيم العلمية العليا التي من المفروض أنهم يذودون عنها. بالتأكيد لا نقصد التقليل من أهمية القيم الاجتماعية والأواصر العائلية ولكن هذه القيم ينبغي أن لا تهيمن على العمل العام ومعايير اختيار القيادات الإدارية لمؤسساتنا الحكومية والأكاديمية.
وهنا يبرز تساءل مفاده كيف يمكن لهذه النخب الثقافية أن تشكل وكلاء للتغيير في المجتمع (Change Agents) في الوقت الذي تنغمس في تجسيد التداخل بين العلاقات الشخصية والمآدب من جهة والتعيينات الحكومية من جهة أخرى!.
الوظائف العامة في الدولة، سواء منها التي تأتي بالتعيين أو بالانتخاب، ينبغي أن ينظمها معايير أخلاقية (Code of Ethics) بحيث تبعد الشبهات عن المسؤول، وتنأى به عن أي سلوك أو هوى الشخصي، وتاريخنا العربي والإسلامي يعج بالقصص المأثورة والأحداث التي تعكس الفصل بين الجوانب الشخصية والقرارات والأحكام العامة.
تغليب المصالح العامة على المصالح الشخصية والابتعاد عن مواقع الشبهات والأهواء قضية أساسية ينبغي أن تقودها النخب السياسية والثقافية والأكاديمية بدلا من الهرولة لتلبية دعوات والمآدب التي يتحقق من ورائها مصالح وغايات شخصية خاصة ولا علاقة لها لا بالكرم ولا بالتراحم وتعميق الصلات الاجتماعية.
على المسؤولين أن يحذروا الولائم من أجل الغنائم فهي تدخل في باب النفاق وشراء الذمم ناهيك عن الرسائل السيئة التي تعطيها للأردنيين عن المسئولين معازيب أو ضيوف فهل من مدكر.....