إن هناك أبناء لنا يضيق بهم الحال ويقررون الرحيل بعيدا عن أرض الوطن، وإن حاول الأب أو الأم إقناع من يريد السفر والعدول عن فكرة الرحيل عبثاً يحاولون، وان لجأ الأهل إلى تغليظ النصح له، تراه يقلب الدنيا رأسا على عقب، ويحول حياة أسرة بكاملها إلى كومة من المشاكل والهم والمضايقات، فما عساه يفعل يصرخ لمجرد خطأ غير مقصود اقترفه أحد أفراد الأسرة اخوه أو أخته.. أو يأخذ ركناً في البيت رافضاً الحديث مع أحد، ظانا أنه بهذه الطريقة سيضغظ على والديه ويدفعهما للرضوخ لطلبه.
إنها مباهج الحياة وفتنتها يرسم صورة واهمة لحياة سيعيشها بالطول والعرض ترفا ونعيما، بعيداً عن متاعب البحث عن عمل واستجداء القريب والبعيد ليامن له عملا يناسب شهادته التي (تعذب) لأجل الحصول عليها، فقد خوى جيب الوالد ولم يعد للأم خاتماً تضعه في يدها! فقد باعت كل شيء كي يدرس الولد في الجامعة مثل ابن أحد الأقارب. ولما ضاقت عليه الأرض بما رحبت وتصور أن أبواب الدنيا قد أغلقت في وجهه، لم يعد له حيلة سوى السفر بعيدا لمكان يعتقد أنها الفردوس المفقود!
أصر وحطم كل قيم (صفطها) يوماً أمام والديه، فقد الوالدين القدرة على منعه لم يجعل لهم سبيلاً إلا الرضا والرضوخ لرغبته، نصيحة أخيرة قالها والده “لا تنسانا” هز رأسه وفي داخله (يا من يعيش)
حمل حقيبته وقلبه يتراقص فرحا والعالم لا يسعه، ودعته الاسرة وكانت النظرة الأخيرة عيون والدته وقد طفحت بالدموع ويد والده المتراخية والتي ملأت بالتجاعيد لكثرة ما تعبت وعملت وذاق لسانه العلقم ليربيه ويربي إخوته.
حط رجله على الجنة التي رسمها خياله، ابتسامات عريضة استقبال حافل، وكان الطلب الأول” عليك أن تعمل وإلا ستموت! عمل بكل طاقته وجنى أموالا كثيرة واشترى بيتا وركب أحدث السيارات وصار له رصيد في البنك، وفي غمرة الجنة التي بات يغرف من نعيمها، نسي أهم أناس في حياته، وقف يوماً أمام المرآة مخاطباً نفسه “ يبدو أن الشيب قد غزى شعري” ويرد على نفسه “ ياه لقد كبرت كثيراً” شعر بالوحدة والاشتياق لأهله.
وعاد الابن الحالم ليبحث عن بيت الاهل بيت الحب والدفء، طرق الباب لم يجبه أحد! لقد مرت عشرون عاماً اين كنت؟! سأله أحد الجيران، مات الأب والام وتفرق الأخوة ولم يعرف لهم عنوان لقد عدت متأخرا! أطرق لوهلة والندم يأكل قلبه فكيف التدبير؟! وكما قال صاحب الابيات:
يا طارق الباب رفقا حين تطرقه
فإنه لم يعد في الدار أصحاب
تفرقوا في دروب الأرض وانتشروا
كأنه لم يكن أنس وأحباب
ارحم يديك فما في الدار من أحد
لا ترج ردا فأهل الود قد رحلوا
ولترحم الدار لا توقظ مواجعها
للدور روح كما للناس أرواح
(الغد)