كيف ستتعاطى الدولة مع مجلس النواب القادم المتوقع أن يتلون بغالبية محافظة ولاعبين جدد في إطار حماية "مصالحها العليا" وسط غياب البوصلة - للمرة الأولى في تاريخ العملية الانتخابية - على تحديد هوية الفائز بين مترشحين يتنافسون على مقعد واحد في دائرة وهمية واحدة?
وما هي أدوات المناورة التي ستستخدمها الحكومة, ومن ورائها مؤسسات الدولة الحيوية, لضبط إيقاع العلاقة مع ما يصلح تسميته ب¯ "مجلس محرومين" سيرى النور أواخر العام. مجلس سيدار من وحي "مدونة سلوك" قيد الإعداد في الدوار الرابع لضمان فصل السلطات ووقف ممارسات الريعية الزبائنية والابتزاز المتبادلة التي سادت سابقا من خلال عطايا, سيارات من دون جمرك ومنح للدراسة والحج كثمن مسبق لضمان مواقف نيابية مطلوبة?
باختصار: من سيكون في المجلس السادس عشر الذي سيفرزه قانون يركز مرة أخرى على شكليات إجرائية دون المساس بجوهر عملية بناء وطني تشكل مدخلا لتشكيل مجلس سياسي وتمأسس لإصلاحات في العمق تبدأ من حيث توقف قطار الديمقراطية والتعددية بعد أربع سنوات على انطلاقه عام 1988 عقب "هبّة نيسان" في معان?
خارطة المجلس الجديد ستشبه إلى حد كبير سابقه الذي حلّ نهاية العام الماضي بعد عامين فقط على انتخابه فقط لأنه, على ما يبدو, تمرد على الحكومة في جلسته الاستثنائية الأخيرة. المشاكسات داخل صفوفه المضمونة مسبقا بدأت بالظهور بداية العام الماضي, بعد خروج لاعب أساسي كان يسيطر على أزرار التحكّم في مواقف مجلس ولد عبر ممارسات طعن الجميع بنزاهتها قبل عملية الانتخاب عام .2007 قيل وقتها إن الهدف الاستراتيجي للدولة من تلك الممارسات كان تحطيم فرص التيار الإسلامي "الموالي" لحماس المدعومة من إيران, ريثما يتم ضخ تيارات سياسية وطنية ذات برامج فاعلة وواضحة هدفها "الأردن أولا" من دون أن تحل مكان الأحزاب غير الفاعلة!
في المجلس السادس عشر لن يكون هناك تأثير لغالبية الأحزاب أو حتى البرامج السياسية أو الانتخابية بسبب بقاء الصوت الواحد مع بعض التعديلات الإجرائية, التي تضمن نزاهة وشفافية أكبر لإرضاء الخارج ومساعدة الأردن على لعق جراح الانتخابات الماضية.
قد يسأل الكثيرون لماذا هذا التشاؤم?
ساسة ومسؤولون سابقون يرون هذه المرة شعارات حكومية نحو تفعيل مبدأ فصل السلطات, لكن مع استمرار سياسات شراء الوقت والإبقاء على سياسة الأمر الواقع. في غياب إرادة إصلاح حقيقية وتوجه لسلق الإجراءات, غيرت الحكومة في آلية التدخل الانتخابي المعتمدة سابقا ما سيفقدها القدرة على المساهمة في رسم نتائج الانتخابات والتحكم بشكل المجلس الجديد لخدمة مصلحة الدولة من دون أي ضغوط داخلية أو خارجية ذات معنى لتغيير قواعد اللعبة السياسية التي عفى عليها الزمن.
فالمطلوب حكوميا الآن المحافظة على الأمر الواقع بعيدا عن تغييرات مفاجئة غير مرغوب فيها قد تنتج عن اتخاذ خطوات صغيرة, لكن مبرمجة صوب إصلاح حقيقي يوسع قاعدة المشاركة الشعبية في عملية صنع القرار ويوفر عدالة أكبر في تمثيل الأردنيين داخل مجلس الرقابة والتشريع ويغيّر من آلية تشكيل الحكومات.
للأسف هذا حالنا يدور في حلقات مفرغة منذ استئناف الحياة البرلمانية, وقتها أيضا, للخروج من تداعيات أحداث معان التي هزّت صورة الأردن وذلك باستعمال تغييرات شكلية لا تمس الجوهر.
لضمان مجلس نيابي "على قد اليد" بعد ولادة مجلس 1989 المشاكس بنفس الإسلاميين وبقايا اليسار والقومجية تم تغيير قانون الانتخاب القائم على أساس القوائم لمصلحة الصوت الواحد المجتزأ. الهدف مرة أخرى كان تكسير شوكة الإسلاميين المعارضين لمعاهدة السلام التي تم توقيعها عام .1994
منذ ذلك الحين مارست الدولة تدخلها بكل الوسائل المشروعة, وأحيانا غير المشروعة لتشكيل مجلس نيابي يحافظ على الأمر الواقع لخدمة استراتيجيتها. كانت الأجهزة قادرة على التحكم بشكل المجلس المنتخب ومضمونه; وتحديد حجم المعارضة المطلوبة "كديكور ديمقراطي" لأسر قلوب الخارج قبل الداخل. كانت قادرة أن تقول إن وجود "فلان" في مجلس النواب يخدم الدولة, ووجود "علتان" في الأعيان أفضل من دخوله حلبة الانتخابات التشريعية.
في قانون الانتخاب الجديد, يبدو أن الآية انقلبت وتغيّرت آلية تدخل الدولة. اليوم سمحت الدولة للمرشحين القادرين على حشد اكبر عدد ممكن من الأصوات في المناطق الانتخابية المقسمة بالاتكاء إلى التيار الإسلامي أو الثقل العشائري أو المال والنفوذ المجتمعي-الاقتصادي. وفتحت الباب أمامهم ليتساوموا على من سيترشح وفي أي منطقة انتخابية ضمن الدوائر ال¯ 120 في المحصلة, سيتحكم العرض والطلب بسوق الانتخابات التي ستدار على أسس القطاع الخاص بعد أن أوقفت الدولة آليات الضغط التي كانت تمارسها من فوق الطاولة وتحتها للتحكم بالمشهد, بما فيها غض الطرف عن حملات ترحيل أصوات جماعية بين دوائر ومحافظات, مارسها أصحاب "المال السياسي" أو المحظوظون من "عظام الرقبة".
إذا, أوقفت الدولة التعامل مع النواب بعقلية أنهم جزء من القطاع العام من دون توفير أسس مساندة لتحقيق نقلة نوعية في مسار الإصلاح السياسي تفضي الى مجلس وطني دسم يحقق مصالح الدولة العليا.
فالحكومة لم تغير, مثلا, أسس إعادة تسجيل الناخبين في القانون الجديد لضمان نقلة نوعية مع أنها تعرف حجم التدخل المباشر الذي مورس في الدورتين الانتخابيتين السابقتين. في قصبة السلط لوحدها دخل 40.000 ناخب وناخبة من خارج المنطقة. حجّة الحكومة الآن أن أي مساس في هذه الصيغة سيحتاج إلى ما لا يقل عن عام, والمسؤولون في سباق مع الزمن لتنفيذ أمر الملك عبد الله الثاني بإجراء انتخابات تشريعية وفق قانون جديد في الربع الأخير من ,2010 تكون مثالا في النزاهة, العدالة والشفافية.
وبذلك تضمن الدولة مرة أخرى استمرار احتكار شخصيات متنفذة من العيار الثقيل ستقوم بتوزيع المغانم والمكاسب النيابية فيما بينها وستعود نسبة لا بأس بها من ممارسي لعبة المال السياسي من رجال الأعمال بمحض إرادتهم لأنهم ينتمون إلى شريحة أتقنت "اللعبة الانتخابية وكيفية التعامل مع الدولة الأردنية".
لكن تشكيل مجلس نواب "من دون جميلة حكومية" سيعني أن منح الثقة البرلمانية في الحكومة سيكون الشيء الوحيد الذي تستطيع أي حكومة ضمانه مستقبلا, ليس لسواد عيون رئيسها, وإنما لأنها حكومة صاحب الجلالة. قد يكون هذا الخط الأحمر الوحيد. ما عدا ذلك, بحسب ساسة ومسؤولين سابقين, "فإن معظم النواب غير مدينين للسلطة بشيء. فإذا بدها الحكومة أمرا لازم تروح تتفاوض معهم كما يحدث في كل أنظمة العالم المتحضر, حيث التنافس داخل الدولة وسط مساومات مع اللوبيات وقوى الضغط وأحزاب المعارضة في أي برلمان".
في حال صدقت نوايا نزاهة الانتخابات فإن جماعات الضغط في المجلس القادم ستكون إسلاميين يعودون إلى وزنهم الطبيعي بعد سنوات على محاولات التهميش, وأيضا الجماعات التي تدين لها بالعرفان لمنحها الأصوات بعد انسحاب الدولة من حسبة السوق. نواب المجلس الجديد سيكونون أقوى من الدولة التي سيكون عليها من الآن فصاعدا التفاوض مع هذه الكتل والشخصيات المستقلة لضمان تمرير ما تريد, لكن مقابل ماذا? في ظل مدونة السلوك القادمة.
ستتغير أيضا قواعد لعبة فرز رئيس مجلس النواب الذي كانت الدولة تضمن نجاحه ضمن ضرورة الحفاظ على التوازنات السياسية المطلوبة من خلال شخصية الشخص المطلوب في هذا الموقع الحساس وقدرته على المناورة داخل المجلس لمصلحة السلطة التنفيذية والدولة ككل.
خلاصة القول; في غياب تفاعل حقيقي بين السلطتين التشريعية والتنفيذية يستند إلى أسس سياسية واضحة وحاضنة وطنية, وبعد تباعد توجهات مؤسسات الدولة التي فقدت إمكانية التحدث مع المجلس بلغة موحدة للدفاع عن مصالحها العليا, فإن ما يخبئه المجلس القادم سيكون مثيرا.
سينغمس المجلس الخارج على سيطرة الدولة في لعبة استقلال غير محدود أساسها انتزاع مكاسب نيابية عبر درجات عالية من المناكفة بهدف الحصول على تنازلات أو تمرير المطلوب, ربما, على حساب مصلحة الوطن, وأيضا خيار التحديث الشامل لبناء دولة عصرية قائمة على أسس المواطنة والحاكمية الرشيدة وفصل السلطات كما يريد الملك عبد الله الثاني منذ .1999
وستتكشف خيوط خديعة وتضليل سياسي بات الجميع يمارسها على الآخر, بعد عملية حشد الرأي العام وراء قانون الانتخاب الأخير, الذي تؤكد الحكومة أنه سيشكل نقلة نوعية على طريق الإصلاح. لكن القابل من الأيام سيظهر أن الدولة حاولت الهرب من مأزق حل مجلس النواب من دون تهيئة خطة عمل اليوم الثاني. خرجت من الدلف إلى تحت المزراب بسبب قانون انتخابي سلق بسرعة ليتحول إلى وجبة نصف مطهية شكلها الخارجي جميل ومقبول لكنها لا تشبع الجائع, وستمغص البطن لأن مكوناتها لم تستو بالقدر الكافي.
وسيقف الجميع مجددا بانتظار طريقة خلاّقة "آخر طبعة" تبتكرها الحكومات القادمة للتعامل مع مجلس حر من أجل حماية مصالحها الاستراتيجية المهددة.0
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
(العرب اليوم)