"التفكير النُّظُمي" أولاً من أجل تحديث المنظومة السياسية
د. علي أحمد الرحامنة
14-06-2021 10:44 PM
تطرح المبادرة الملكية لتحديث المنظومة السياسية تحدّياتٍ غير مألوفة من حيث خصوصيّات مركّباتها وعمقها وشمولها والآثار المترتبة عليها. ويبدو أن الوقت قد حان لتجاوز طيف كبير من التحفظات والملاحظات على اللجنة، وكثير "جدًّا" منها مشروع، برئيسها الذي يُوصف بأنه "محافظ"، وعددٍ كبير من أعضائها، بل وربّما غالبيّتهم، والملاحظات التي لن تتوقف عن تغييب عددٍ ممّن قد تكون لهم "أحقّية" متعدّدة الأسباب في أن يكونوا من أعضائها. لقد قُضي الأمر، واللجنة تُعدّ عدّتها لمباشرة مهماتها، ولسان الحال الأردني الطبيعي يتمنى لها التوفيق والنجاح في حمل أعباء مهمّة عسيرة خطيرة الأهميّة، سيترتب على عدم إنجازها، لا قدّر الله، ما لا يريده أيّ مخلص يتمنّى أن تبدأ عملية إصلاح جوهريّ شامل، سياسياًّ واقتصاديًّا وإداريًّا، في المقام الأوّل. كما سيترتّب على إنجازها، ولو بقدر جيّد (والمقبول غير كافٍ الآن!)، نتائج يُؤمل أن تخرجنا من عنق الزجاجة إلى فضاءات رحبة مبشّرة.
ولأن المهمّة تتحدث عن "منظومة"، وهي كذلك بالفعل، فلربما يتطلّب الأمر معرفة بخصائص المنظومة، أيّ منظومة، بالمعنى العام المجرّد. ومن أجل ذلك، يدخل (التفكير النّظمي)، أولاً وبالأساس، من حيث هو أداة فهم النُّظُم وشبكات علاقاتها، وما يحرّكها من علاقات السبب والنتيجة، وديناميات العلاقة بين الجزء والكل، وكثير غير ذلك ممّا يقدّمه التفكير النظمي، ومهاراته المتعدّدة، وهي مهارات تتطلّب معارف تُخصّص لها الكتب والدّورات والبرمجيّات والمواقع الإلكترونية المكرّسة لهذه الغاية، وغيرها.. وكي لا يبدو هذا الطّرح "أكاديميًّا"، لعلّ من المناسب توضيح أننا محاطون بالنُّظم في كل مناحي حياتنا، ولا يخرج من إطار النظام إلا "كومة" لا رابط هادفًا بين مركّباتها. ونظرة إلى الدراّجة الهوائية، وهي نظام هادف، مقابل أجزاء درّاجة مفكّكة ملقاة في زاوية محلّ تصليح الدرّاجات، تبيّن الفارق بين النظام والكومة. وما دام الأمر مرتبطًا بالنظام السياسي، فإن كلّ مركباته تدخل موضوعيًّا في علاقات السبب والنتيجة، والجزء والكلّ، والشبكة، حيث آثار أيّ خلل في أيّ جزئية أو مركّب تعني أن النظام بمجمله سيتأثر، بدرجة أو بأخرى، ولو بعد حين.
إن وعي اللجنة، رئيسًا وأعضاءً، بهذه الحقائق البسيطة (المعقّدة في الواقع!)، يتطلّب استخلاص عددٍ من النتائج، التي يمكن إدراجها في عددٍ من الخلاصات، ربّما من أهمّها حقيقة أن تمكّن طرف أو شخص أو وجهة نظر من إقصاء أشخاصٍ أو أطراف أو وجهات نظر لآخرين، لا يلغي واقع فعل المركّب (السبب) الذي أنتج الموقف أو الطرف أو وجهة النظر، أي أن إقصاء النتيجة، لن يكون كافيًا لإلغاء الأسباب. وبكلمتين: الإقصاء مرفوض!
ثم إن اللجنة، رئيسًا وأعضاء، مطالبة بإدراك أن ما تأتي به، وما قد تتوافق عليه، سيبقى تحت أعين الرقابة الحثيثة والمشدّدة، من مختلف أطياف الشعب، ومن الإعلام، وغيرهما كثر، محليًّا، وعالميًّا. ولكن الرقابة الأكثر صرامة ستكون رقابة الواقع الآتي وما يحمله من نتائج. ولنا هنا أن نطالب بأقصى حدٍّ من فتح أبواب الحوار حول ما يُعلن أو يرشح أو يُطرح في عمل اللجنة. إن تشجيع أوسع حوار وتغطية حول ما يدور في اللجنة مهمّة وطنية، وأملنا كبير في تفهُّم الجهات المعنيّة لهذه المسألة خصوصًا، حتّى لا تُكمّم أفواه أيّ منتقد أو صاحب وجهة نظر. وفي نهاية الطاف، هذه اللجنة تبحث في مستقبل الأردن والأردنيّين، وهم لا يقبلون الانكفاء عن المشاركة، من خلال أدواتهم المختلفة، في الإعلام، ووسائط التواصل الاجتماعي، ومختلف أشكال التواصل والتفاعل. وفي النّظم أيضا، مخرجات أي نظام هي مدخلات جديدة في النظام نفسه، ومخرجاتُه مدخَلات في النُّظم الجزئية المركِّبة الأخرى، ضمن النظام الأشمل. ومن هذا المنظور، يمكن للرأي العام، وأدوات التواصل، وغيرها من أدوات التفاعل، أن تكون حاضرة في أعمال اللجنة، وستكون (سببًا) من الأسباب المؤثرة في أشكال النتائج ومضامينها، وهي ذات مصداقية قد لا تقل عن مصداقية اللجنة.
أمّا في آليّات عمل اللجنة، وهي بتفاعل أعضائها وما ستشهده من عمليات، نظامٌ أيضًا، فإن الأَولى، كما يبدو، استيعاب حقيقة أن التخطيط الجيّد لتنظيم محاور العمل، وأدوار المشاركين، وحدود المشاركة، وشكلها، وكيفية الخروج بنتيجة ما، هي كلّها وغيرها من مسائل إجرائية، يدخل فيها الشكل سببًا حاسمًا في النتيجة والمضمون. وهنا، تتضاعف أهميّة الشكل، بحضور (93) مشاركًا، ولربما يكون من الأفضل الترويّ قبل بدء العمل في محاور الإصلاح، سيرًا على خطى الحكمة التي تقول: تمهّل في التفكير، وأسرع في التدبير! فلنفكّر كثيرا، وعنما نقتنع بسلامة ما توصلنا إليه، نحثّ الخطى في العمل لإنجاز المهمّة، ويا لها من مهمّة!
راضون أو متحفظون أو رافضون للشكل الذي صِيغت به اللجنة، نتمنّى لها النجاح، ففي نجاحها نجاحنا جميعا.