رحل الزميل والصديق ملحم كرم أبرز رموز الصحافة اللبنانية والعربية على مدى ستة عقود ، كان مؤسسا في تجارب الاصدارات الصحفية العديدة في لبنان الى ان ترفع على عرش "الحوادث" المجلة العربية الأهم وامتلكها بعد وفاة مؤسسها وصاحبها المرحوم سليم اللوزي ، وعلى مدى أكثر من نصف قرن كان نقيبا للمحررين ، وكان من مؤسسي اتحاد الصحفيين العرب ، ونائبا دائما للرئيس.
على المستوى الشخصي فقد كان ملحم يملك حميمية ويشعرك أنك صديقه الأول ولا يكف عن الاتصال بأصدقائه واحدا واحدا ، لم يمر شهر دون أن يعبر عن شوقه لي ويدعوني للزيارة واللقاء في بيروت أو لندن أو باريس ، وفي كل مرة يتصل بي يختم مكالمته بالقول "بتأمرني في شيء" ، وكان رحمه الله متابعا لكل شاردة وواردة في مجريات وتطور العمل الصحفي ، وكأنه في معركة تحدْ دائمة بشأن التميز الصحفي والأدوار النقابية المهنية والاجتماعية ، وظل دائم التذكير لي أن الحوادث هي مجلتي ومفتوحة لي في أي وقت ، وكنت أمازحه بالقول: "أنت والحوادث رصيدي الاستراتيجي الصحفي".. ولذلك فان حديثي عنه وحديث كل الزملاء ، هو حديث عاطفي وحديث عن تاريخ الصحافة اللبنانية الحديث ، أو كما يقول زميلنا طلال سلمان بأن عصرا كاملا من تاريخ الصحافة في لبنان قد انطفأ مع رحيل الرجل الذي غلبت صفة النقيب على اسمه: ملحم كرم.
فعلى امتداد إحدى وستين سنة حافلة بالأحداث الجسام والتطورات التي غيرت الخرائط ، كان ملحم كرم حاضراً بإجماع رفعه فوق المنافسة ، فصار أقرب إلى الخلود في الموقع الذي احتله بقوة حضوره الشخصي والمعنوي بوصفه حامي حمى الحرية وحقوق المنتسبين إلى مهنة الصحافة ، خصوصاً أنه كان يتبنى شعار انصر أخاك ، المحرر ، ظالماً أو مظلوماً .
بل إنه قد تغلب على التناقض البديهي بين كونه يرأس مجموعة من المطبوعات ، بلغات عدة ، وبين موقعه كنقيب للمحررين ، وبينهم من يعمل في مؤسساته ذاتها... لا هو شعر بأي قدر من التناقض ، ولا المحررون انتبهوا إلى المفارقة بين صفتيه المتباعدتين إلى حد التصادم.
أول الحاضرين في المناسبات جميعاً ، وطنية أو مهنية ، اجتماعية أو نقابية. أفصح الخطباء بالذاكرة التي تختزن القرآن الكريم ونهج البلاغة والإنجيل وديوان المتنبي ومختارات من الأخطل الصغير وأمين نخلة ، ووالده الأديب منشئ دار ألف ليلة وليلة ، وبعض شعراء الفرنسية إن لزم الأمر ، وبعض البارزين من صناع السياسة في العالم. وأنشط العاملين المساهمين في بعث الروح في اتحاد الصحافيين العرب من موقعه كنائب للرئيس الدائم لهذا الاتحاد الذي فقد الكثير من زخمه.
وبالاضافة لما كتبه الزميل الكبير طلال سلمان رئيس تحرير جريدة السفير ، فقد كتب عن ملحم كرم واحد من أبزر المخضرمين ، وصاحب العمود الأكثر شهرة على مدى نصف قرن وهو الاستاذ رفيق خوري ، الذي يذكرنا أنه بتوديع لبنان لملحم كرم الذي ما كان يتخلف عن أي وداع ، ولا كان يعزينا في رحيل الزملاء سوى كلامه الساحر. ولعلنا كصحافيين نسأل: مَن يشيّع من؟ نحن نشيّع ملحم كرم بلا خطاب ومن دون أن نعرف ماذا نفعل بعد رحيله أم أن النقيب هو الذي يشيّعنا ومعنا حقبة المحنة في الصحافة بعد الحقبة الذهبية؟ ولعلنا كمواطنين نسأل: هل نودّع أحلامنا؟ ماذا نستطيع ان نفعل في لبنان لم يعد يشبه نفسه؟ وأين تجد مَن (ينتصر على تشاؤم العقل بتفاؤل الإرداة) كما كان يفعل ملحم كرم مؤمناً بكلام أنطونيو غرامشي؟
نصف قرن ، وملحم كرم أمامنا ، يجلس على القمّة ، لم يتردد في الدفاع عن كل زميل ومن خلاله عن الحرية ولبنان. ولا كان الوقت إلا ملك يديه برغم مشاغله ، كأنه يطبّق قول السيد: (اطلبوا تجدوا ، اقرعوا يفتح لكم).
في بيت أدب وثقافة ، بيت أمير القصّة كرم ملحم كرم ، ولد ونشأ ملحم كرم. وهو أخذ الأدب والثقافة الى الصحافة والخطابة. كان يتمتّع بموهبة القيادة منذ شبابه الباكر. في اتحاد الطلاب الثانويين ثم في اتحاد الطلاب الجامعيين ، قبل أن يخوض معركة الرئاسة في نقابة المحررين عام 1961 ويبقى نقيباً يجدد له الزملاء حتى رحيله. وكان في مساره المهني والشخصي يمثّل النموذج الذي رسمه توماس بين بالقول (إن الاعتدال في المزاج هو دائماً فضيلة ، لكن الاعتدال في المبدأ هو دائماً رذيلة). فلا النقابي حجب الصحافي ، حيث النجاح في الأمرين. ولا هما معاً توقفا عن التطور والبحث عن الأفضل برغم النجاح الذي يسكر كثيرين.
نصف قرن ولم يتغيّر ملحم كرم بمقدار ما تجوهر. حاور كل الملوك والرؤساء ، وبقي رأسه على كتفيه ، وقدماه على الأرض. لا المتغيرات دفعته الى التخلي عن الثوابت من دون ان ينسى التعلّم من الحياة. ولا المرض في سنواته الأخيرة جعله يبدّل شيئاً في برنامجه اليومي وسلوكه. فمن عرف كيف يلاعب الحياة عرف كيف يلاعب الموت. ومن دانت له المنابر أدرك ان الكلمة التي كانت في البدء هي ايضاً في النهاية. لم يكن مجرّد شعار له قول والده كرم ملحم كرم: (علمتني الحقيقة أن أكرهها فما استطعت). ولا كانت الحقيقة بالنسبة اليه معزولة عن الحق والسعي للعمل له ، بحيث يصل كل صاحب حق الى حقه.
ولن يغيب الحاضر الدائم.
الدستور