حينما يجتمع مسارات الصيف بمحافظة أهل الشهامة والكرم بوجود المسار المائي وسحره بأودية تحت مستوى سطح البحر، فاعلم أنك بأرض التاريخ.
فالمسار يشمل ثلاثة خيارات لمستويات الصعوبة، حيث أنه امتد من الطيبة -بلد الطيب-بنزولها الحاد المتوسط الصعوبة واستكشافه صعب، منذ بدايته في قرية العراق، والاستجماميّ، السهل عند مصبه بالبحر الميت.
كانت بداية الاستكشاف من بلدة العراق، التي تقع في نواحي الكرك، وهي أرض مؤاب، فقد انطلقنا من بين بساتين التين، والصبار المعمر الذي تفتحت أزهار أكواز ثماره فوق سنسله حجرية، حيث أُحيطت به الكروم عوضاً عن الجدران، فهو سياج الحماية من الدخلاء والمتطفلين وقطعان الماشية. فبالرغم من عدم ريه طوال الصيف، إلا أنه يعتبر نبات الصحراء وعطش الأرض ليضرب به المثل بالتحمل؛ أما في كفوف أوراقه، ستجد علاج للكولسترول والسكري، ولثماره فائدة أعظم، فهي غنية بالمغنيسيوم الضروري للعظام والأنسجة ومخفض لتوتر العضلات، وهو ما ينشده أصحاب هوايتنا.
ومن فوق القاطع الصخري المحيط بالبلدة، والمنسوب تسميتها له، أخذنا طريقنا ونحن نتطلع للكتف الجنوبي من الوادي، وما فيه من تحديات استكشافية دون وجود "خطيطة" لأقدام العابرين أو الرعاة لملحية أرضه وعدم إنباتها حشائش، فقد برع قائد المسير وتعاون الفريق على تجاوزها بين كتل ضخمة، انشّقت على الجبل حين هوا، مشكلاً صحن الوادي بأخدوده المجهول السحيق، وما بينها من كهوف غدت زرائب للخراف والأغنام بمداخل ضيقة تمتد لعشرات الأمتار في قلب الجبل العائدة بتكوينها للعصر الكامبري، أي قبل 540 مليون عام، ولو درست ونقبت لوجدتَ فيها آثار وبقايا لعصور ما قبل الحضارة، وصدفيات من المستحاثات والأحافير، متجرة بين نباتات البلان الجافة وعلى صفائح الصخور.
وبعد 8 كم وصلنا نقطة النزول الرئيسية المشرفة على أحواض التجفيف لأملاح البحر الميت بمشهد سطر بزرقة مياهه وبلوراته الملحية، الواقعة للشمالي الغربي من بلدة الطيبة، لتكون هناك استراحتنا الأولى، والداخلة في أهم الصناعات الكيماوية والأسمدة ووحدات التكنولوجيا.
وبين الصخور والحجارة محدودة الثبات، كان لابد من الحذر والارتكاز على عصي المسير، للثبات وتخفيف الضغط على المفاصل مع الوعي التام لموضع أقدامنا، وها قد هبطنا بدربنا المتعرج لبطن الوادي ونقطة الصفر، وكلا المرحلتين تستوجب حذاء يغطي الكاحل لحماية الأربطة من الإجهاد وداعم لها خشية الالتواء والإصابة، لنتنفس الصعداء وصولاً للمرحلة السهلة والأجمل مع انتصاف النهار، حيث يرفدها شعاب وأودية وروافد من وادي غراب، من نواحي الطيبة، والبحر جنوبي العراق، وسيل جابل، والأصفر المنسوب للون صخوره، ومثله الأبيض انتهاء بشعاب حديرة، وكلها تصب ماء شتائها بنميرة المحرم دخوله شتاءاً خوفاً من سيلٍ جارف لا تعرف ميقاته بصدع بلا مهارب ولا وسيلة للنجاة فيه.
عند تلك النقطة كانت الاستراحة الثانية قرب بيارات الجوافة بالشعاب، وعيوننا تنظر من قلب الوادي لمكان مسيرنا الشاهق الذي بدأ من ارتفاع 817 م فوق سطح البحر ونحن الآن تحته، وكأن الوادي حدث به خسف؛ مخلفاً قواطع عامودية بالصخر المحيط بأعلاه، وكتل ثابتة، ولكن تشعر أنها سوف تنهار بأي لحظة، لندخل الصدع المائي الضيق، دائم الجريان وما فيه من جماليات صخرية تجلّت، حيث لا نباتات أو زواحف إلا من عناكب قد أعادت نسج خيوطها بين الشقوق والفواصل.
طبقات رسوبية بدرجات متعددة للوّن البني والأحمر الداكن، بما احتوته حجارة بيضاء براقة كأنها نقاط موسيقية وتذبذبات بخطوط لتوتر الأرض وهدوئها بذلك الزمان ملخصة كتاب قصّة الخطوط لمانليو بروزاتين مرجع الرسم والفن الإبداعي ولوحات عصام إسماعيل بمجمل نقاطها، لتأخذك أشكال الجيولوجيا لأفكار بعيدة كأنها تسافر بك عبر الزمان وسط خرير الماء بين مساقط ضوئية عجز عن تمثيلها رامبرت رائد المدرسة أحادية المصدر.
يأخذك الصدع محدود العوائق، فقد تبرع متطوعين بتثبيت درجات حديدية على مسقط المائي خدمةً للزائرين، وآخر قد أضافوا إليه حجارة وصخور لتسهيل تسلقه، وبين سلسلة لا تنتهي من أسطوانيات عالية لعشرات الأمتار وانحناءات عديدة؛ كالسائر بمتاهة تدهشك فيه الخطوة الواحدة بعد الأخرى لتخادعك الجغرافيا باتساع المسار ليعيد إليك الذهول بعد منعطف تعلقت بين طرفيه صخرة عظيمة على ارتفاع خمسين متر أو يزيد ومن تحتها وقف فارس يغسل خيله بمشهد سريالي.
ولأهل المكان وطيبتهم جمال آخر فما يمر عليك أحدهم إلا بادر بالسلام وعرض عليك كل ما لذ وطاب من فواكه والتي وضعوها أمامهم بجلستهم ومتنفسهم الوحيد بالمكان، حيث تمت زراعتها بمزارعهم، في غور نميرة والصافي.
وممن تخلّد ذكر نميرة بمذكراته المستشرق (ترسترام 1872م) بكتاب "أرض مؤاب"، وهو صاحب مقولة "يقع وادي نميرة بعد سيل خنزيرة، حيث تقترب الجبال من البحر بشكل أكبر ليتصافحا في وحدة محبة لا أدري إلى متى ستبقى"، وكأنه كان يعي أن البحر أخذ بالانحسار والجفاف يوماً بعد يوم، لينتهي المسار عند نقطة سالب 338م تحت مستوى البحر.