أولا: من الذاكرة البعيدة، يدخل الأستاذ إلى غرفة صفنا (الرابع الابتدائي) ويحمل معه قاعدة خشبية كالمرسم، يثبت عليها قرصاً مستديراً قطره ثمانين سنتيمتراً ومن مركزه لمحيطه تقاسم سطحه سبعة ألوان هي ألوان الطيف، قوس قزح، ثم ومن الخلف يدير القرص حول محوره بسرعة، فنصاب نحن التلاميذ بالدهشة حيث مع سرعة الدوران اختفت الألوان السبعة ولم نعد نرى الا قرصاً بسطح لونه أبيض.
عندما تذكرت ذلك قبل أربع سنوات عدلت عن وصف مجتمعنا الأردني متعدد الأصول والطوائف والأديان باللوحة الفسيفسائية الجميلة إلى وصفه بالقوسقزحي، لأن الفسيفساء جمالها في بقائها ثابتة في موقعها في اللوحة المجتمعية، أما ألوان قوس قزح فإنها تتفاعل مع بعضها، وقمة تفاعلها تنتج أبيضاً ناصعاً.
ومن الذاكرة أيضاً إني كنت أتابع منذ مطلع تسعينات القرن الماضي مقالات الدكتور لبيب قمحاوي، وبعيداً عن مضامين المقالات، كان ما يسعدني فيها أسلوبه الذي يؤكد أن كل أبناء المجتمع اكتافهم متساوية ورؤوسهم مرفوعة، متكافلين متكافئين برغم ظروف الجوار الصعبة آنذاك، ولم يكن هناك حديث عن (حقوق منقوصة)، ومع أني لم ألتق بالدكتور القمحاوي يوماً، وحتى الآن، لكني طربت عن بعد قبل ثلاث عقود إذ أحسست أنه كان يحاججني بأردنية صلبة، وأحاججه بفلسطينية هي أولوية قضيتنا المركزية في معترك عملنا الدبلوماسي.
ثانياً: وحيث أني لا أقف طويلاً عند مقال كتبه البروفيسور شين يوم (sean yom) قبل شهرين في مجلة (foreign policy)، يصف الأردن من خلاله بأنه مملكة موز (على غرار بعض جمهوريات أمريكا الوسطى) فأجواء الفتنة، وما استند اليه البروفيسور من (آراء المحللين) حسب وصفه، وبعض التشوهات المقصودة في كتابة تاريخ الثورة العربية الكبرى، ونشوء الأردن الحديث عام 1921 هو ما جعله يصل إلى نتائج خاطئة أدت إلى تلك المدخلات الخاطئة.
وفي الحقيقة، ومع أني لست باحثاً سياسياً، إلا أني على قناعة أنه لو التقيت بالبروفيسور على فنجان قهوة وحوار ساعة جاد معه (لا نسقط من خلاله الظروف المعيارية السياسية) فإنه لا شك سيعيد تقييم قناعاته وتحليله السياسي.
ثالثاً: أما ما فاجأني وصدمني، فهو مقال للدكتور لبيب الذي تلقف عنوان البروفيسور المشار إليه أعلاه، فرمى انتقادات بشعة للأردن تحت غطاء توصيف أدبيات السياسة الدولية لجمهوريات الموز، ويفترض بعد ذلك حقائق: أن الأردن وصل خط النهاية ولا دور له إقليمياً، وأنه سقط من حسابات الاخرين، ومن يتابع نص المقال ومضامينه يشعر كأن الأردن سائر إلى زوال.
وهنا أتساءل: هل كان طلبي لشباب الأردني أن يطلعوا مرة أخرى على مقابلة جلالة الملك مع وكالة الأنباء الأردنية، وعلى مقال سمو الأمير الحسن بن طلال (على عتبة المئوية الثانية للدولة) هل كان يجب أن يمتد رجاءً للباحثين والمتخصصين أن يقرأوا ذلك بتمحيص أيضاً؟
هل ينسى الباحثون المتمرسون معاناة الأردن الاقتصادية داخل جغرافيا (الربيع) العربي وما قبله، ويجلدون الذات بتضخيم آفة الفساد؟ ولكن ينسون أيضاً أن الجغرافيا (السياسية والأمنية) تجعل من الأردن رقماً صعباً إقليمياً ودولياً، وطبيعة القيادة الأردنية الهاشمية وإرثها القومي، ودعمها من شعب المجتمع القوسقزحي جعلها تنتصر بسهولة على خزعبلات صفقة العصر.
بالله عليكم أيها (الباحثين) ألم تلحظوا عنفوان الشعب الأردني وصلاة إرادة قيادته عندما تزاوج مع صمود عنفوان الأهل غربي النهر وحرك العالم لتعرية العدوان والصلف اليميني الاسرائيلي الشهر الماضي؟
الحديث موجع ويطول، ولعلنا نكتفي أن لا نرمي حجرً في بئر نشرب منه.