وأنا أبارك إلى صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين في عيد جلوسه الثاني والعشرين على عرش المملكة، أدعو الله أن يحفظه ويوفقه لخير البلاد، والأردن يدخل في عهد جلالته المئوية الثانية التي تعني فيما تعني، ليس فقط استنهاض الهمم، وشحذ الطاقات للتنمية والنهضة فقط، وإنما لإعمال النقد البناء، والمراجعة الحسنة للمسيرة، والاستفادة من العبر، تذكرت ما نشرته على صفحتي على "فيس بوك" قبل أيام عندما قلت أن الشعب الأردني من أكثر الشعوب حاجة إلى التجديد، بما في ذلك الخطاب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإعلامي .
استعدت الفكرة وأنا أتابع اللقاء الذي استضاف فيه برنامج "دنيا يا دنيا" صباح اليوم الوزير السابق ورئيس مجلس إدارة الدستور الأخ الصديق محمد داوودية للحديث بمناسبة عيد جلوس الملك الثاني والعشرين، لأفاجأ بالأخ المحاور - وهو في العشرينات من العمر - يصف في مستهل التقديم جلالة الملك عبد الله بعبارة "حادي العيس"، قلت لنفسي: هل يعرف هذا المذيع - وله احترامي - معنى ما يقول؛ وعلى الفور قفزت روح الراحل الشريف عبد الحميد شرف أمامي، فقد كان رحمه الله لا يستحسن وصف البعض للملك الراحل الحسين طيب الله ثراه، بمصطلح "حادي الركب"، وقد ابتسمت زوجته الكريمة الوزيرة السابقة والعين ليلى شرف في وجهي وقالت: "معه حق، الملك الحسين يقود طائرات مدنية وعسكرية، ولا يقود قافلة من الجمال أو الإبل" .
والحقيقة، استناداً إلى تاريخ العرب ومعاجم اللغة، لا تليق بالألفية الثالثة، ولا بمئوية الدولة الثانية، ليس لأنها سُبّة، ولكن لأنها بدائية مستهلكة، حادي العيس هو حادي الإبل، هو من ساقها، وحثها على السير بالحِداء، وهو الغناء، ولما كانت الإبل تسير في قوافل طويلة، ولمسافات كثيرة، سعياً وراء الرزق، نشأ عند العرب ما يسمى بحادي العيس، وهو كما قلت ذلك الذي يقوم بمهمة الغناء للإبل، فتطرب لغنائه، وتنتفخ آذانها، وتنشط في سيرها، وفي ذلك ما رُوِي شعراً على لسان شاب في دير هرقل، رواه عبد الله بن العزيز السامري، عن الكميت بن زيد الأسدي:
لمّا أناخوا قبيل الصبح عيسهمُ
وحمّلوها، وسارت في الدُّجى الإبلُ
وأرسلت من خلال الشق ناظرها
ترنوا إليّ ودمع العين تنهمرُ
يا حادي العيس عرّج كي أودِّعَهُم
يا حادي العيس في ترحالك الأجلُ
وقد تردد "حادي الرّكب" في كثير من أشعار العرب، ومنها ما قال الشاعر سعود الصاعدي:
يا حادي الرّكب في درب العلا شَرُفَت
بك المعالي ودرب الدين متّصِلُ
لم يُثنِ سيرك في البيداء ذو ظفر
ولا ثنى العزم لا يأس ولا مللُ
سِر، فالمطايا بها شوق يسيِّرُها
وفي النفوس أزيزُ الشوق يشتعل
الشاهد في القول، أن استكمال التحوّل إلى دولة القانون، يستلزم أن يضاف إلى ما هو جوهري، التخلص من مصطلحات وعبارات - وبخاصة في وسائل الإعلام - لم تعد صالحة للاستخدام في هذا العصر بعامة، عصر تقوده تكنولوجيا شديدة التطور لم تعد عقولنا قادرة على استيعابها، أو التعامل معها بسرعة ويسر، ولا يتناسب مثل هذا المصطلح مع ملك يمتلك من العلم والمعرفة والخبرات والأدوات، ما لا يمتلكه العديد من زعماء العالم، ولعله حفظه الله من خيرة المتحدثين في المحافل الدولية بلغة إنجليزية تفوق في جودة مفرداتها، وحسن صياغتها، ومضامينها العميقة، وبشكل ارتجالي، العديد من رؤساء أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، فكيف يكون حادياً للعيس !
مبارك لجلالة الملك، ومبارك للأردنيين عيد الجلوس الثاني والعشرين لقائد المسيرة، لسيد البلاد، لعميد الأسرة الأردنية، للأب الحاني، للأخ الوفي، الجندي الباسل، الطيار البارع، المظلي الجسور، باني الدولة الحديثة، قولوا ما شئتم، إلا "حادي العيس"، فصورة الملك لها علاقة وطيدة بشكل الدولة، وهو ليس حادياً للركب، وإنما قائداً لمسيرة شعب، والشعب الأردني الذي يقوده الملك، عروبي من حرائر نشميات، وأحرار من رجال أشاوس، حصل شبابه على المكانة الثانية في مجال البرمجيات على مستوى الشرق الأوسط بعد الهند، وليس مجموعة من الإبل المتنقلة في الصحراء، وعلى الإعلام الأردني أن يغيّر وأن يبدّل في خطابه، وأن يعي أن الانتقال للمئوية إعلامياً، يعني أن لا يبقى جامداً، وأن لا يحمل معه إرث إعلام المئوية الأولى، الملك قائد فذ لشعب عظيم، وكفى. والله من وراء القصد.