الناس بطبيعتها تكره الحقيقة، وتميل أكثر إلى الوهم، لأنّ للأخير طاقةً على التخدير، وتأجيل الارتطام بالوقائع العارية. الناس تفضّل المسكّنات وتتطيّر من العمليات الجراحية، مع أنها تحمل في الأغلب العلاج النهائي. اقلع الضرس المتورّم، يقول الطبيب، وإلا سيأتي يوم لن تستطيع فيه مضغ الطعام، أو حتى تذوّقه.
يحب الكثيرون أن تكذب عليهم، وهو ما يُعرف اجتماعياً بالمجاملة. النَّفْس تميل إلى ما يطربها، والأذن تعشق قبل العين أحياناً، كما قال شعراء اعتبروا أنّ جمال القصيدة مرهون بمقدار كذبها: «أعذبُ الشعر أكذبُه»!
وتسير هذه الوقائع مسرى العادة، فتراها منظّمة للحياة الاجتماعية، وبعضهم لا يرى في ذلك بأساً ما دام الجميع متفقين على اللعبة وشروطها، ويعرفون أنّ الآخرين لا يقولون لهم الحقيقة دائماً ويحبون ذلك: «كذبك حلو»، ولا يسأمون من العيش في ظلال الوهم. إنّ الحياة بلا وهم مثل مختبر الكيمياء البارد، يقول أحدهم، وتوافقه إحداهن.
بيْد أنّ الأمر لا يقتصر على الأفراد، وإنما ترى التلذّذ بالأوهام ميزةً استراتيجية لسياسات دول ومنظمات وأحزاب بعضها يحكم شعوباً ويسوّقهم بقوة الوهم الطاغية إلى المقصلة. ألم يفعل هتلر بألمانيا ذلك؟ ألم يجعل ستالين الشعبَ السوفييتي جنوداً من أجل أن تنتصر الشيوعية، ويبقى العلم الأحمر مرفرفاً فوق الكرملين؟
جرى ذلك ويجري في مناطق عديدة في العالم ارتهنت للأيديولوجيا الساحقة التي جرى تعتيقها في أقبية الإذعان، وجرى التعامل معها بقداسة حتى علت على الأديان، وهزمت المنظومات الأخلاقية، وفتكت بصورة الإنسان ووجوده وأشواقه.
كانت الجثث تحترق بالملايين في أتون الحرب العالمية الثانية، وكان كل حلف يزعم الانتصار ويرفع الأنخاب، حتى جاء يوم أدرك الجميع، بعد فوات الأوان، أنّ الكل مهزوم، ولم ينتصر سوى الوهم، والرغبة المدمّرة في إنكار الواقع، والسير وراء بريق الفكرة الجهنمية التي جعلت بقائي، كإنسان، مرهوناً بإبادتك، حتى لو كنت أخاً أو جاراً أو صديقاً، أو كائناً وجد نفسه، بلا سبب في قلب الجحيم، ولا خيار أمامه إلا استكمال المسير في دروب التهلكة.
مرّ زمن طويل على الحروب التي أثخنت البشرية بجراحاتها. تعافت أوروبا بعدما أيقنت أنّ صوت العقل أقوى من ضجيج المدافع، وأنّ حياة الإنسان أهم من ترسانة الصواريخ. لم يكن ممكناً أمام أوروبا وأمريكا وكل الأعداء المتخاصمين في حربين عالميتين متوحشتين، إلا الاعتراف بالحقائق الخشنة الصلبة التي تجرح النرجسيات القومية.
قرأ العالم، المثخن بالموت، الدرسَ بعناية، واستلهم العبر، وطوى صفحة الألم، وراح يجدّد وعد الأمل، ويكتب السطر الأول في كتاب إعمار الكون وترصيعه بالأمن والرخاء والعيش الكريم. من حقنا أن نحيا كما يليق بأحلامنا، صرخ الناس بحنجرة واحدة، وكان لهم ما أرادوا.
وفي خضمّ إنتاج المعجزة، أزالت ألمانيا بآلياتها العملاقة الركام من الشوارع والعقول، شرعت تبني مجتمعها على أسس العلم والمنطق، ونبذ هيمنة الفكرة النازية، وبناء الدولة على قيم الحق والعدل والمساواة، فكان التصنيع وكانت الحضارة، وتألق الشِعر واغرورقت الموسيقى بالشجن الأبدي، وأضحت ألمانيا، في غضون أقل من ثلاثة عقود، واحدة من أيقونات العالم الصناعي، وأحد أكبر اقتصاديات الكون، ولا تزال.
وعلى الضفة الأخرى من المحيط الهادئ، كان فجر ياباني ينبثق، يؤكد أنّ الاستسلام مفردة تنتعش فقط في معجم الأمم المحتضرة. خرج اليابانيون من الحرب العالمية الثانية فقراء مهزومين تعساء، لكنهم قرروا أن يفجروا ينابيع الازدهار في الأرخبيل الياباني.
الألمان واليابانيون لم يتمكنوا من السيطرة على الاقتصاد العالمي بقوة الحظ ولا بقراءة الفنجان والطب الشعبي ووصايا العرّافات، بل لأنهم، وهذا مهم جداً، اعترفوا بالهزيمة. لم يذهبوا إلى تسميتها «نكسة»، ولم يجتهدوا في ابتكار الزيف، ولم يذهب قادتهم أو نُخبُهم إلى ممارسة الوهم والشعوذة وبيع البلاغة والبلاهة.
بعد الحرب، وقف الألمان واليابانيون أمام المرآة، فرأوا صورتهم على حقيقتها العارية. كان أمامهم خياران، لا ثالث لهما: الغرق في البكائيات وإنتاج آليات مقاومة زائفة تجمّل الهزيمة، أو التشمير عن السواعد والبناء، ومناهضة ثقافة الموت التي تجعل البشر حطباً رخيصاً في المحارق العبثية. تعالوا نحدّق في المرايا!
(البيان)