يبدو أن قدر الأردن أن يتعايش مع فتن متعاقبة تستهدف استقراره وأمنه ونسيجه الوطني. لم يفق الوطن بعد من الفتنة الأولى في مئويته الأولى والتي لو نجحت لا سمح الله لشهدنا التشرذم ولأصبح واقعنا يحاكي واقع بعض دول الجوار الذي لا يغيظ عدو ولا يسر صديق. نعم الوطن يعج بالمشكلات، وفيه ظلم كثير يمكن تلمسه ليس فقط من خلال الأرقام المروعة للبطالة، والمديونية، والفقر، والعجوزات المالية، وتراجع مستويات المعيشة، ولكن يمكن تلمسه من خلال التحدث مع أي أردني فسيروي لك قصة مؤثرة للمظلومية، والغبن، وعدم العدالة وسيروي لك قصته مع الحقوق المهضومة، والمحسوبية، والواسطة... نعم وطني فيه حيتان يأكلون الأخضر واليابس من قوت الشعب، وطني فيه رعاية لأبناء الذوات من رؤساء الوزراء والوزراء السابقين الذي يتم توظيفهم في رئاسة الوزراء والديوان الملكي بدون إعلانات وبرواتب خيالية، وطني فيه ظلم في مؤسساته وجامعاته التي يتنمر فيها رؤساء مجالس الأمناء على رؤساء الجامعات ويتقاضون مياومات لقاء سفر خارجي بشكل غير قانوني، ناهيك عن تنمر غير مسبوق على رؤساء الجامعات من قبل موظفين جامعيين يدعون بارتباطاتهم مع الأجهزة الأمنية.
نعم كل ذلك وغيره يحدث في وطني الذي تحرص فيه نخبة قليلة على الإبقاء على قوانين انتخاب متخلفة وبائسة تحول دون تمثيل القوى السياسية الحقيقية في المجتمع، كما أن تمسك المسؤولين وأولي الأمر بقوانين أحزاب تحبط العمل الحزبي وتفشله وتجعل من الأحزاب هياكل جوفاء مفرغة من المحتوى وغير مجدية كل ذلك تجعل الأردنيين ينظرون الى أي وعود بالإصلاح السياسي بعين من الريبة والشك.
الظروف التي يعاني منها الأردن، وتردي أوضاعه الإقتصادية، وتباطؤ الإصلاح السياسي لا بل تعثره، وانتشار الفساد والظلم وعدم العدالة كل ذلك يستدعي الشروع بالإصلاح الذي لا يمكن أن يتأتى إلا بوجود إرادة سياسية حقيقية.
كل الأردنيون يدركون جيدا أن الإرادة السياسية التي نتحدث ليست بيد فيصل الفايز، أو طاهر المصري، أو بشر الخصاونة، أو عبدالرؤوف الروابدة أو غيرهم من النخب السياسية التى تحتل مواقعها بحكم نخبويتها لا بحكم كفائتها وجدارتها.
الإصلاح السياسي لا يتأتى إلا بأيادي ومعاول إصلاحية فما الذي يمكن أن يصلحه رؤساء حكومات سابقين كانوا بمواقع السلطة التي أنتجت الخراب والترهل الحالي لشؤون الدولة!.
من جانب آخر فإن الإصلاح السياسي لا يمكن الوصول إليه إلا إذا حددنا مفهوم الإصلاح والغايات التي نود الوصول إليها وعبر أي آليات.
وتجدر الإشارة هنا أن الأردنيين، ورغم مطالبتهم الجماعية بالإصلاح السياسي، مختلفون على محتواه وأهدافه وغاياته ومآلاته، فمفهوم فيصل الفايز للإصلاح غير مفهوم كل من سمير الرفاعي، وعون الخصاونة، وهاني الملقي، وفايز الطراونة، وعبدالله النسور، وأحمد الشناق، وسالم فلاحات وبسام العموش وأنيس الخصاونة وفؤاد البطاينة ومحمد الحموري ومروان الفاعوري. لذلك فإن انتقاء الملك لرئيس وأعضاء لجنة الإصلاح السياسي المزمع تشكيلها سيعكس بالتأكيد مدى وجود الإرادة السياسية الحقيقية لهذا الإصلاح.
القضية التي نود التركيز عليها هنا هو أن الإصلاح لكل قضايا الفساد والترهل المشار إليها آنفا لا تتحقق من خلال باسم عوض الله وجماعته المشاركين في الفتنة الأولى إذ كيف يمكن أن يقود الإصلاح شخوص يجمع الأردنيون عل أنهم هم سبب الأزمات الخانقة التي يعاني منها الوطن. كيف يمكن أن يصدق الأردنيون أن العناصر الرئيسية المشاركة في نسج خيوط الفتنة الأولى يمكن ن يكونوا قلبهم على الوطن وهم صناع مشاكل الوطن؟
لقد تجاوز الوطن تلك الفتنة وتجنب مآلاتها السوداء لكن ذلك لا يلغي الأسباب الموجبة للإصلاح وتعزيز المشاركة السياسية، وتحقيق التمثيل الحقيقي للأردنيين في البرلمان عبر صياغة قانون انتخاب عصري وديمقراطي.
التحدي الأكبر الذي يواجه الأردن الان هو الفتنة الثانية والتداعيات التي نجمت عن قرار تجميد عضوية النائب العجارمة، والتجمعات العشائرية وإغلاقات الطرق، والمواجهات مع القوى الأمنية تحت غطاء عشائري صرف يركز على اصطفافات قبلية فيها تنمر على الدولة وقوانينها وسلطاتها.
الإصلاح السياسي لا يتم عبر تجمعات عشائرية تأخذ دور مؤسسات الدولة وتفرض على الدولة منطقها وقانونها وعنجهيتها. النائب العجارمة يريد أن يهز بنيان الوطن كله من أجل الانتقام من سلطته التشريعية التي فصلته لفجاجة اسلوبه في الطرح وطريقته الصدامية مع زملاءه في مجلس النواب، وعدم قدرته على التعامل وفق الأطر التنظيمية لمجلس النواب.
الوطن لجميع أبناءه ولا عشيرة ولا منطقة ولا مدينة ولا شريحة عرقية أو دينية أو طائفية تمتلك الحق في فرض رؤيتها ومنطقها على الوطن إلا من خلال مؤسسات الوطن رغم ردآءة وترهل كثير منها فلا يجوز بأي شكل من الأشكال المطالبة بالإصلاح عن طريق الزحف العشائري والتخريب وحرق المركبات والإعتداء على قوى الأمن...
لا أعلم كيف يقول النائب المجمدة عضويته بأنه يستقيل من المجلس لأن الملك له صلاحية حل البرلمان واعجبي؟ىهل الان فقط عرف النائب المحترم أن الملك هو رأس السلطات السياسية الثلاث أم أنه يريد أن يستثمر هذا لأغراض تبرير تجميد عضويته وتحريض الناس على الدولة؟
الفتنة الثانية هي برأينا الأكثر خطورة على الوطن من الفتنة الأولى، فالفتنة الأولى كانت محاولة انقلاب فاشلة كان من السهولة رصدها وتتبعها، أما الفتنة الثانية فهي تتغلغل في نسيج الوطن وتعرض مؤسساته وسلطاتها وأمنه واستقراره للخطر.
ما معنى الدعوات الموجهة للمناصرة العشائرية، وما معنى إغلاق طرق تمثل شريانات حيوية رئيسية في المملكة، وما معنى التعرض للقوى الأمنية، وما معنى إشعال الحرائق وتوتير أوضاع الناس، والإستقواء بالعشيرة على الوطن بمبرر تمثليي درامي يتخذ من الإصلاح شعارا ظاهرا في الوقت الذي ندمر الإصلاح وندفع الدولة نحو تعطيله إذا ما ساءت الأمور.
ومن قال أن العشائر تسعى إلى الإصلاح الديمقراطي الحقيقي في الوقت الذي تتمتع فيه بمقاعد جامعية لا تستند للمعدل في الثانوية العامة... ومن قال أن العشائر تريد الإصلاح السياسي في الوقت الذي تصغط لتعيين ابنائها سفراء ووزراء ومحافظين على أسس أبعد ما تكون عن الإصلاح. ...نعم الفتنة الثانية وتداعياتها وطرق التعامل معها ربما هي الأكثر جسامة وخطورة من الفتنة الأولى.
الفتنة الثانية فيها عبث مؤذي للنسيج الوطني من أجل انفعالات نائب مندفع بخبرة سياسية متواضعة يسعى للإنتقام من مجلس نواب كامل لقرار تجميد عضويته.
وحدة الأردن أهم من أي نائب وأي عشيرة والوطن أكبر من أي شخص فيه فهل من مدكر....