أيام ثقال! هكذا قد يصف البعض ما يمر به المجتمع الأردني الان وأن كل مر قد لا يمر، إذا لم نلتفت بحنكة الإدارة اليقظة للتحولات المتسارعة لمجتمع كان وما يزال في مخاض الهوية وبناء الدولة والمنعطفات التاريخية التي لم تستقم أو تخفف من حدتها منذ عقود. غير أنه من الراجح لدى عموم الناس ومن يدير شؤونهم أن ضعف أسس الجدارة لقيادة المؤسسات العامة قد أثقلت كاهل المجتمع في ذروة مواجهة وباء عالمي لا يرحم والذي لم يعرف حجم فاتورته الفعلية لغاية هذه اللحظة. وهذا يذكرنا بالمقولة الإنجليزية المشهورة " الفيل في الغرفة" كناية عن وجود حقيقة واضحة ظاهرة للعيان في حين أن المتواجدين في الغرفة اختاروا عدم التعامل أو محاولة حل المشكلة!
إن المشهد بتعقيداته يتطلب عقلاً نخبوياً متحرراً من قيود الازمات المتلاحقة وثقل الألقاب ومنفتحاً على الجميع، يتدارك مستوى اللحظة الراهنة ومدركاً أننا مهددون في حاضرنا فلا خيار لنا الا بإعادة بناء مستقبلنا والتماس مكامن القوة والضعف، بعيداً عن حديث الاماني والآمال وما يحدثه ضجيج رد الفعل غير المدروس من نزيف مستمر في مستوى الثقة. فالأردن اليوم امام مفترق طرق يتطلب منه إعادة بناء شاملة هدفها تقوية وبناء مؤسسات جديدة قادرة على الاستمرار أو إعادة تشكليها بشكل جذري وتمركز الدولة القوية بالقانون والإدارة الحصيفة في النظام الاجتماعي والاقتصادي. وليس هذا النهج المطلوب بدعة أو ردة فعل بل مقتضى تاريخي وطبيعي فقد كتب المفكر الأميركي المشهور فوكوياما عام ٢٠٠٤ في مؤلفه " بناء الدولة" أن عواقب اخضاع الدولة لمنطق السوق وخيمة وأن فكرة التخلي عن أدوارها الاساسية دون ضوابط قد تقوض قدرة الحكومات على تقديم خدماتها الأساسية وقوتها الناعمة داخل المجتمع حيث أن الحل يكمن في إعادة بناء السلطة التنفيذية بشكل أصغر لكن أقوى، أقوى بمؤسساتها ورؤيتها بعيدة المدى وتصدر النخبة والكفاءات لمسؤوليات الإدارة العامة.
وحينما نقارب مفهوم إعادة البناء مع ما هو سائد في أحاديث الإصلاح، فإن علينا ضمناً ادارك أن مساحات التغيير المنشودة واسعة ينبغي لها أن تنطلق من فرضيات جديدة تستوجب حكماً اعادة تشكيل الخريطة الإدراكية للمؤسسات والافراد نحو التخلص من عقلية الانتظار والتخطيط بالقطعة أو البقاء في حالة نوستالجيا دائمة على حساب الفعل الحضاري المستقبلي. فيكون الإصلاح جسراً لإعادة البناء وعملية ذاتية وليست موسمية تستهدف تمتين الفرضيات الجديدة التي تقوم عليها الدولة الأردنية في مئويتها الثانية.
فهل آن لنا أن نؤسس لقواعد إعادة البناء تستند الى مبدأ سمو الخدمة العامة ودورها في تحسين حياة الناس والاحتكام الى الصالح العام كمرجع أخلاقي ووطني بعيداً عن الخطاب الرسمي المعتاد والمنضبط على إيقاع متلازمة السين " سنفعل وسنقوم " فالمنشود من عموم الناس إيقاع آخر يتأتى من مصانع لا تهدأ وميناء يعج بالصادرات الوطنية وحدائق عامة تستوعب أحلام الأطفال قبل صوت ضحكاتهم! وأن منطق التجزئة والتسويف في معالجة القضايا العامة والمصيرية على قاعدة كسب الوقت لن يذهب بنا الا الى مزيد الاستنزاف المتزايد من رصيد ثقة الناس الذي يصعب تعويضه ربما لأجيال وعقود قادمة.