تعود بي الذاكرة في هذه المقالة الى أوائل عام 1984 حين كنت اكتب مقالة ثقافية في الرأي، كان يومها المرحوم خالد محادين المحرر المسؤول عن القسم الثقافي كنّا نكتب بهمة عالية، وكان يستقبلنا ببشاشة عالية ويشجعنا ويربت على اكتفانا، ما أجملها من ايام تعرفت يومذاك مجموعة من المحررين والكتاب والصحفيين، ولا أنسى وانا ادخل المبنى القديم من جانب مكتب رئيس التحرير المرحوم محمود الكايد الذي فرض حبه في قلوب الجميع؛ لسعة صدره وثقافته وحبه للرأي، وحين أصل المكتب الاخير وكان يجلس فيه سليمان القُضَاة ومحمد العمايرة وعبدالوهاب زغيلات يرحبون جميعهم بكل قادم، وينهمكون في العمل لإخراج الوليد في اليوم التالي، لن أنسى ذلك الزمن خالد محادين بذكائه وحسن تعامله وإبراهيم العجلوني بثقافته ودماثته ومحمد برهوم بهدوئه وترجماته والكثير من الاحبة الذين تعرفتهم في تلك الفترة الذهبية من عمر الرأي التي عمّرت تقاليد صحفية ومهنية وفكرية عروبية لا تنسى، حتى غدت مدرسة ينهل فيها الجميع تجربتها وفكرها وثقافتها ومهنيتها، لن انسى انها فتحت لي آفاقا وأبوابًا في الكتابة منذ منتصف الثمانينيّات وحتى وقت قريب؛ كتبتنا وكتبناها، علمتنا أصول الكتابة المقالية، واليوم وانا أقف على اكثر من ثلاثة عقود ونصف أعود ابحث عن نفسي في يوميات الكتابة فيها؛ فتقفز امامي اسماء رؤساء التحرير الذين تركوا فيّ بصمات وذكريات لا تمحي طال الزمان او قصر؛ محمود الكايد بمدرسته وابوته وعروبته الصادقة وخالد الكركي بلغته السامقة وسليمان القضاة بهدوئه ورزانته وعبدالوهاب زغيلات برجولته ودماثته وعبدالسلام الطراونة بروحه العذبة وسميح المعايطة بطيبته الرائعة وجورج حواتمه بصوته ونظرته الثاقبة ومجيد عصفور بهدوئه الرزين وطارق المومني ببسمته الدافئة ولا انسى نادر الحوراني والباشا سمير الحياري وركان السعايدة والمرحوم ابوعلي عمران خير الذي فجعنا برحيله المبكر والاخوة الاعزاء الدكتور حسن حماد وعبدالله حجازي وخليل الشوبكي ونايف الطراونة وسمير العمد وسمير العواملة وخالد حياصات واسرة القسم الثقافي واعتذر لمن لم اتذكرهم، هؤلاء وغيرهم ممن تقاعدوا أو ما زالوا يحملون جمر الرأي وتجاربها الغنية يستحقون منا في يوبيلها الذهبي اجمل عبارات التقدير والاحترام؛ ثم اجد نفسي تقف بين زمنين؛ الأول مغرق بالجد والمثابرة والرؤية، والثاني يعيش تيها ليس له نهاية، في الاول الناس يعرفون ما لهم وما عليهم ويدركون حدودهم، وفي الثاني تبدلت الاحوال وتغيرت الانفاس وغابت الحقيقة في وهاد غريبة.
ويقفز امامي السؤال تلو الأخر: ما الذي تغير في الأعوام الاخيرة؟ والتغيير جاء على كل شيء في تفاصيل الحياة في مجتمعنا والعالم برمته حتى ضاعت الحروف من الكلمات؟ بحيث لم يعد القارئ يميز الصواب من عدمه، حتى الوطن بات يجلد صباح مساء مع أنه الانفاس التي يجب الا تغيب عن كل حليم ووطني غيور، قلت في نفسي: لعلي انا الذي لم أعد اعرف إيقاعات ما حولي؟ لكني ما زلت أعيش تفاصيل التفاصيل اذهب واصدقائي نتحدث طويلا، ونناقش كل صغيرة وكبيرة، واجدهم يعيشون الدهشة نفسها التي لا تعرف فيها أحياناً رأسك من قدمك! وهنا عليّ ان اعود الى تلك الكتابات التي ما فارقني حرف منها على مدار أكثر من ثلاثة عقود ونصف هي عمرها في جريدة الرأي الغالية على قلبي، والتي وضعتني في صلب الزمن العربي بجنانه وتناقضاته وتحدياته، واعرف انه كان الأجمل والانقى بتفاصيله، لا انسى لهفة الصباح وانت تحتضن الرأي، لتقرأ كل حرف وخبر، وتذهب وانت في قمة النشوة لخبر أو مقالة هنا أو هناك، وللحظة صادقة تفرح الروح،...اعود وانا أمام زمن يخطفك ببريقه وسرعته وشبابه، وأخر يشدك بتحدياته ومعاناته وظلمه، ذاك الصفاء والعطاء، وهذا الدهاء والشقاء، ذاك الشفاء والوفاء، وهذا النفاق والدهماء، ذاك البراءة والجد والعمل، وهذا افقه معتكرٌ، ذاك زمن الرجال الرجال والمسؤولية والكلمة المقروءة، وهذا غابت فيه معاني المحبة والبراءة والقيم والرجولة، وتاهت فيه الكلمة، وصارت المسؤولية كم يكسب المرء من وظيفته، وغدت الوظيفة شركة خاصة، والمسؤولية كم يهتبل المرء منها لأصحابه وأقرانه، وكم نحتاج الى مراجعة وتقييم في كل تجاربنا السابقة واللاحقة؛ خاصة في ظل تنامي وسائل النشر الجديدة التي لا تأبه لقيمة او معنى وفيها لم تعد هناك مقالة ناقدة مستفزة، ولم يعد للقراءة سوقها الصحيح؟ ولم يعد هناك من يتابع كل ما يكتب، وأصبح الكتبة والهواة بعدد شعر الرأس، وغدت الكتابة ميدان كل من هب ودب.
هذا زمان لم يعد للكاتب الحقيقي تأثيره؛ أتدرون لماذا؟ لأن قلمه لا ينسجم مع تجار الكلام وحجم الآراء والأكاذيب المعلبة، وهذا زمان الرأي الجديد في يوبيلها الذهبي الذي يجب ان يعود لكي يعيد لكل شيء جماله وألقه وحضوره وفكره ووطنه وعروبته وإنسانيته.
نعم تتغير ايقاعات الزمن، ويغدو الحليم أمامه في حيرة، غير انه لا يجب للأقلام ان تستسلم؛ خاصة ان امتنا أمام تحديات جسام لا ترحم، ووطننا يحتاج كل رأي جاد وموضوعي، بعيدا عن لغة التحطيب في جذور الوطن وفي مواقفه وعلاقاته، وعن اي لغة لا تعجب اصحاب الوجوه الدخانية التي بالكاد تعرفها حتى في وضح النهار.
نعم لن تشيخ الكلمات قبل آوانها لمجرد انقلاب مفاهيم الزمن؛ لان القادم اصعب والجهد فيه لا ينبغي ان تسوده أنانية الحاضر بعباراته المسخ ولغة وسائل التواصل الاجتماعي الحادة وغيرها، والحاضر يحتاج الجد والصبر والحزم والحذر، حيث لا ينبغي ان تنام العيون عن مررات الواقع، ولا تسكت الأقلام عن الفساد كي لا ينام جفن لفاسد، ولا يترك هؤلاء ان يستمرأو بغيهم وكأنهم هم محور الحياة، وغيرهم أيدي تصفق وتندب، محزن منظر ذلك المتهالك الذي لا يستطيع قول كلمة الحق دون النظر في عيون سيده، والحزن يقطع الاوصال حين تسمع عن رجال لا حول لهم ولا قوة، يتحلقون وينتظرون كلمة يميلون حولها ميلة رجل واحد، هذا زمان لا يجب ان يترك دون كتابة.
هذا زمن لا يترك لمن لا هم لهم غير الخراب ونشر اليأس والقنوط، ووطننا الأردن يحتاج اليوم كل قلم نزيه وكل رأي حصيف وكل وطني غيور وكل شيء جميل، اما التطرف والعنجهية والأفكار المسمومة فلا مجال لمهادنتها، لان التسامح والإخاء يرفض وبقوة اي تطرف ومن اي كان.
المواقف والمذكرات لا تعد ولا تحصى؛ غير أنك تكتشف كل يوم ان المصالح فوق كل شيء، وان الرجال كالعملة النادرة وهم ندرة الندرة، وان الظلمة لا بد لهم من جولة تلو الاخرى حتى ينتصر الحق، ويبقى الأردن عاليا وفي المقدمة، وتبقى الرأي عنوان الحياة ودرة الصحافة الاردنية ومدرسة الصحافة الوطنية تمضي في دربها غير آبهة بتحديات الزمن.
mohamadq2002@yahoo.com
الرأي