كم من الجميل أن تعود لخشم العقاب بوابة الطريق القديم لبيت المقدس وأرض الحجاز، فتلك المدينة التي ذكرها المستشرقون وأفردوا فصولًا لتاريخها العتيد.

بعد غور المزرعة سلكنا الطريق الإسفلتيّ المحاذي للأنبوب الناقل لماء الوادي مروراً بسلسلة من الجراميد والتلال الملحية، مابين وادي ابن حماد والحسا من أراضي محافظة الكرك.

كان الانطلاق صوب الوادي بمحاذاة السد المائي، والذي ما زال قيد الإنشاء، عبر مجرى السيل الحصوي وصوت قرقعة الحصو خشخشتة الوحيد المخيم على المكان، وصولاً لنقطة جرّ المياه بالأنابيب لتبدأ بعدها الحياة وتتبدل الخشخشة بخرير ماء وزقزقة عصافير تطير متباهية بالألوان، حيث ريشها متجانس مع ما هو موجود بالوادي، فهذه موسيقى السلام الخالدة التي لم تتغير مع الزمان، وعلى ثغر مدخله مررنا بموقعين تاريخيين ذوا أسوار مربعة منيعة كالحصون، نعتقد أنهما يعودان للفترة النبطية أو الأدومية من طراز البناء والقطع، وحولهما بضع أشجار العشر السام، ومع هذا الزعاف القاتل إلا أن فيه علاج لداء السرطان اللعين وقرحة المعدة ومقوي للمناعة ومحفز لإعادة نشاطها وثمارها جذابة الشكل، وإن لامست عصارتها العين تؤدي لفقدان البصر بسبب إتلافها القرنية، وتسمى أيضا بالخرفع أو بشجر الجن لإيمان السحرة والدجالين أن دخان حطبها يجلب الجان والأرواح الخفية، والوادي المنسوب اسمه للمدينة العريقة ذو الأصول الآرامية الكنعانية كركا وتعني الحصن المنيع، وبالفعل حصنها بقي منيعا عبر الزمان لأهل آلهية وممن حاول التحصن فيها يوماً من أصحاب الأفكار السوداوية.

يأخذ الوادي الركامي المدخل بالضيق كلما اتجهنا للشرق مع تغير طبيعة صخوره من كلسية وجيرية لجرانيتية حمراء وردية بجلاميد بيضاء كان دربنا بمجرى السيل وما حفي من دفلى افترشت أزهارها مسيرنا على مدى الطريق وما بينها من قصب وراتان وحميض وتين بري وطلع دون وأثر للأشجار الدخيلة من سلم وكينا ومحدودية المراعي فيه، إلا من أتى لسقاية ماشيته، ومن علامات معرفة نقاء الماء الجاري عدم وجود الطحالب ذات الأطراف القاتمة والبعوض فإن كثرت كان هناك تلوث وانتشار للبكتيريا المسببة للأمراض.

وعلى مشارف شفاه سلسلة قرى عتيقة بردى وموميا التي بها غدائنا وسكا آرامية الاسم وسمرا والشهابية وبينها هناك مجسم صخري ينسبه الأهالي لسفينة نبي الله نوح، وجبل التنور الذي فار بالطوافان ليس ببعيد عنا، كما أن لمنبعه الرئيسي قدسية بالنسبة للسيدة سارة لاستسقائها منه وهي ابنة هارون وأم اسحاق وجدة يعقوب وزوجة إبراهيم المدفونة بجواره في الخليل وعمها لوط أنبياء الله عليهم السلام وكلهم لهم آثار ودلائل مابين أدوم ومؤاب.

وما استرعى انتباهنا وتساؤلنا الجيولوجي كثافة عنصر السيلكا بمقطع وحيد في إحدى الجبال بشكل واضح ومختلف عن بقية المقاطع الأخرى بقلب الوادي البيئي البكر والذي يعد مقصداً مهماً لعشاق هذه السياحة وحماة المحافظة عليها.

أخذنا المسار لسلسلة من الشلالات المائية ومنها ما تجاوز الخمسين متر ثابتة المسقط والمصب منذ زمن بعيد، وكثافة الهوابط الكلسية التي تشكلت حولها وما عملته بصقل الجبل وتهذيب صخوره ليكون أعلاها قرب استراحتنا الأولى لمسارنا الاستجمامي السهل تحت ظل أشجار النخيل التي تعلقت متشبثة بين شقوق الصخور مشكلة مدرجات كالجنان والتي يصعب الوصول إليها على واجهات الجبال.

ومع المجرى عبر ممره وانحناءه وما صُقل من قواعد طرفية وغار فيه، ليمر بنا من أسفل صخرة علقت بثبات بين طرفيه بمشهد يعجز عنه أبرع المصممين بذكاء الطبيعة، وكيف تكون مصدر إلهام ما احتوته من تكوينات وخطوط وأشكال، وما عمل من الألوان من إصفرار الكبريت وأكسيد الحديد والنحاس وكما قال الفنان العراقي القدير سعدي الكعبي "إن أردت أن تتعلم اللون وانفعالاته تأمل ما في الطبيعة"
وبعد ثلاثة شلالات على أطراف الجبل وسلسلة من الينابيع المختلفة بدرجات الحرارة، وصلنا للمسقط الرئيسي للمجرى الذي كانت عنده نقطة الاستراحة والنهاية لاحتياجه لمعدات وللاستجمام تحت مائه المنهمر بقوة، لنعود أدراجنا من نفس الدرب بمسافة ست عشرة كيلو مصادفين بوسط الطريق راعياً أتى ليسقي ماشيته، وأورد ذكره الرحالة ترسترام 1872م بفصل خاص وجاء فيه لوكمنت مجموعة من الرجال في هذا الممر لاستطاعتك أن تأسر فيه جيشا بأكمله .

وبعد إصرار أحد أصدقائنا الذي علم بوجودنا بمحافظته، دعانا وقبلنا بدعوته لزيارة بلدة المومياء -والتي تلفظ بلسان أهلها دون الهمزة- والواقعة مابين القلعة وما كنا نسير فيه، ومشارفها حقول أصبحت سنابل قمحها ذهباً معلناً موسم الحصاد، وكروما قد جادت بما لذ وطاب، وتحت التينة، وعلى نار الحطب كان غدائنا "المجللة" من خبز قمح ولبن مريس وتقلاية بصل بالسمن البلدي من إنتاج ماشيتهم، وجولة بالقرية بين بيوت قديمة حولت لجمعية شلالات مومياء التعاونية، مجموعة منها لمركز زوار واستضافة بخدمات سياحية بعد ترميمها لتعود كما تركها قاطنوها بأقواسها وما فوق عقودها من قصب محمول على جذوع اللزاب، الذي تسلل فيها ضوء الشمس لينير الفناء، وتأثيثها بشكل عصري محافظ على التراث والأصالة مستمد من روح المكان بمصادر تم إعادة تدويرها بكل احترافية، وكما يقول المثل "أهل مكة أدرى بشعابها"والتي أصبح شبابها الذين تم تدريبهم من أعضائها بقدر عالٍ من المهنية لخدمة سياحة المسير والترحال والمهتمين بالبيئة وعشاقها ومن يمر بها من عابري درب الأردن، وخُتم يومنا بسحر الغروب وكأس من الشاي بحديث شيق مع مديرها عن أسرار المكان وخباياه.