من قصص تجارة الحرام والحلال في مجتمع المحبة
د. عائشة الخواجا الرازم
04-06-2021 12:45 PM
تنويه : الصراحة أنني بعد أن اكتشفت أننا لسنا الوحيدين في مجتمعنا الذين نرى ونختبر هذه السلوكيات المقيتة من أكل مال الحرام وتتفيه الحلال ، وأن كل من نعرفه من الأصدقاء وغيرهم وفي القضاء أيضا، يسرد لنا قصصا لا عدد لها من تعرضه للنصب والاحتيال والغش في عالم التجارة وعالم الصنايعية.. وجدت لزاما علي سرد بعض هذه المواعظ للقراء.. عسى الله سبحانه يهدي الغشاشين النصابين إلى طريق الحلال والصواب.. فالبلاد قد عم فيها الغش واستقواء الغشاش بمال الحرام عينك عينك.
شربت قهوتي اللذيذة وأنا أدردش مع صديقي النبيل وائل زهران، في متجر للأدوات الرياضية وأخبرته أن جهازاً أهديته لابني حسين قد تعطل فجأة خلال ركضه عليه، حيث تحطمت قاعدة الجهاز من وسطها ولكن الله بحمده وشكره سلم.
طبعا الجهاز الذي اشتريته مضى على استخدامه خمس سنوات، وبالطبع سيتأثر.
لكن صديقي الودود وائل أبى إلا أن يؤمن لنا جهازا بديلا من متجر آخر حيث أنه توقف عن بيع أجهزة الركض هذه.. ويرسل في نفس الوقت رجل صيانة يثق به لإصلاح الحال.
المهم.. أقسمت أن لا يتعب نفسه بإرسال جهاز بديل للاستخدام المؤقت ريثما يتم إصلاح الجهاز المحطم.
فحضر المختص وفحص الجهاز، وشخص العلة بأن القاعدة الخشبية السفلية للجهاز قد تشققت نتيجة الاستخدام ثم تدريجيا انفسخت وما زالت عالقة بالأسلاك والخ. وأعلمنا أنه يجب نقل الجهاز إلى مركز الصيانة. ولن تتجاوز تكلفة قاعدة الخشب المناسبة مع النقل والتركيب والصيانة وتأهيل سرعة الجهاز خمسين دينارا بسبب توصيات الصديق وائل.
ولأن الجهاز ضخم وبالكاد أدخلناه عند شرائه لغرفة النشاط في بيت ابني حسين. فقد سألته هل من الممكن إجراء اللازم في المنزل؟
فأجاب : صعب.. وعسير.. ومستحيل.
فنسينا الموضوع وأجلناه إلى إشعار آخر.
لم أستشر الصديق والأخ العزيز وائل لأنني علمت أنه مسافر إلى إسبانيا .ولم أشأ إزعاجه نهائيا بالموضوع حيث توقفت الحكاية هنا.
استمر ابني يتذمر ويرجو إعادة الحياة للجهاز، فاقترح عليه ابني محمد أن يقوما بفك القاعدة ويقومان بإصلاح ما تيسر في كركبة الجهاز، ويتم تفصيل قاعدة قوية من الخشب اللاتيه 18 وليس من الخشب المضغوط المصنع خصيصا للأجهزة هذه ولكثير من الأثاث الذي لا يخدم ولا يعيش رغم ارتفاع أثمانه.
كان لحسن الصدف النجار الشهير أبو عمار الذي يعمل في بيتنا الكثير من المنجور، كان في نفس الوقت يقوم في بيتنا بتركيب درف المطبخ. فسألته إن كان بخبراته المتقنة الطويلة يصنع مثل هذه القاعدة الخشبية من اللاتيه 18 وبنفس الزوايا والأبعاد فأجاب: طبعا.. ونحن نصنع أدق من ذلك تعرفين يا أم حسين شغلنا .فالنجار الذي يصنع غرف سفرة وغرف نوم ومطابخ يستطيع ان ينفذ هذه القطعة البسيطة.
وبالفعل شاهد الجهاز واستلم القاعدة.. وبعد شهر من المكالمات والمداولات كل يتعهد بأنه غدا سيحضر القاعدة الجاهزة زي الفل.. وبعد أن استلم كامل حقوقه من شغله الآخر، وإكرام الشغيلة والأمور سمن وبطيخ على عسل.
بعد شهر وأكثر وأبو عمار كل يوم : أنا جاي بكرة.. وأحيانا يقول : أنا على الطريق .. يا أبو عمار.. يا خوي.. بدنا نشغل الجهاز.. وين اللي على الطريق ؟ أو رجع لنا القاعدة خلص بدنا ننقل الجهاز كله للتصليح وخلص ..تطورت المواعيد فأصبح في كل مكالمة يتعذر بأن لديه مشروع منجور وأنه مشغول والقاعدة جاهزة .لكن يحتاج للوقت .أصبح كل همنا استعادة القاعدة !
قلنا : هذا النجار المحترم المعروف بمنجرته وشغله وتعامله معنا منذ سنين ، لا يمكن أن يرتكب هذا الأسلوب الشنيع إلا ربما أنه أضاع القطعة أو في الأمر سرا.
قال له أبو حسين : هات القاعدة واحنا بنتصرف يا أبو عمار.. عملت لنا اياها قصة إبريق الزيت.. يا رجل يا هات القطعة وانتهى.
أقسم أبو عمار يمين بأن القاعدة جاهزة منذ شهر وأنه صنعها بيديه، ولكن لديه ظروف قاسية بتسليم عطاء أبواب لمدارس التربية، وأنه في ورطة وأولاده لا يستطيعون مغادرة المشغل .
حضر أبو عمار وتم تركيب القاعدة اللاتيه 18 المتقنة زي الفل. معزولة ومدهونة بالأسود كما المواصفات من أروع ما يمكن. وطلب خمسين دينار فاستلمها ورقة لميعة وجديدة دون مفاصلة.. مع إكرامية عشرة دنانير لابنه الفتى.. وشرب الشاي والماء ومع السلامة يا أبو عمار.. ويسلموا هالإيدين.. ونسينا المماطلة والكذب والمواعيد الوهمية وأنا على الطريق وبكرة وبعده.. ودفعنا زيادة عما طلب مهندس الصيانة الذي أوصاه صديقنا وائل.
قام حسين ومحمد بتشغيل الجهاز.. مائة بالمائة وقلنا ماشي الحمدلله على أننا ما حملنا الجهاز ونقلناه لمركز الصيانة.
هاتفني بالصدفة الصديق وائل زهران وسأل عن أخبار الجهاز فأعلمته بأن الأمور تمام وكل شيء على ما يرام .وأن كل ما في الأمر فقط قاعدة الركض الخشبية انقسمت.
ابتدأ ابني حسين يستخدم الجهاز من أروع ما يمكن والأمور عال العال..
في الصباح التالي .. سمعت صراخ زوجة ابني فأصابني هلع رهيب.. وهي التي لم أسمع لها صراخا منذ عشر سنوات لزواجها.. لم أقم بإيقاظ أبو حسين من النوم لكي لا أغافله لا سمح الله بخبر..
هرولت الدرج وأنا أردد: اللهم لطفك.. اللهم رحماك.. اللهم سترك يا رب لطفا بحالنا وأنت العليم بما نحن فيه.
دخلت بيت ابني وأنا أرتعد.. وإذ بولدي قد وقع ( وقعة ) لطف الله به. وما زال الدم ينهمر من أنفه ورأسه وماذا أقول وأن أحتضنه غير :
إنت بخير يمه.. بخير يا حبيبي.. إنت بألف خير يمه ! يا رب عفوك ورضاك على هالصبح وضعت يدي تحت رأسه وهو مذهول..يضحك تارة..ويهز رأسه تارة أخرى ويبسمل : بسم الله ..شو صار يا جماعه..شو صاير يمه ؟
وزوجته تكتم دموعها وصراخها وتقول : كان مبسوط وحاطط كاسة القهوة في تجويف الجهاز ويقرأ قرآن ويركض فرحان.. وفجأة سمعت صوت انفجار وسقوط حسين عن قاعدة الجهاز بقوة. طار عن الجهاز يا خالتو.
شاهدت وأنا اتحسس رأس ولدي وجهاز الركض مقسوم من المنتصف.. ومنخفض فأدركت أن الخشبة تحطمت مرة أخرى.. لكن بفظاعة خطرة خاصة لأن حسين حينما اطمأن أسرع الركض.
قدر الله وما شاء فعل.. وكان لطف الله عظيما.
قام أبو حسين وابني محمد بعد هدوء العاصفة وشرب الشاي وتناول الإفطار وصلاة الشكر وإسعاف حسين بفحص السبب.. وحسين ينام مستغربا شاكرا لله ..قائلا : عن جد والله يابا ما شعرت إلا وإنتو عندي بس..أما شو صار ؟ الله أعلم.
حضر ابني محمد وتم فكفكة الجهاز لمعرفة سبب الكارثة التي تحولت لرأفة من الله سبحانه.. وكانت المفاجأة التي توضح للجميع بأن الغش والاستهتار ورمي الضمير والكسب الحرام والطمع عند بعض التجار والصنايعية بلا وازع من أخلاق.. قد لعب كل هذا بأن يقوم النجار المحترم الموثوق والمعتمد لدينا منذ سنوات للشغل الخشب.. بإلصاق قاعدة الجهاز ببعضها ودهانها والقول: بأنه صنع قاعدة متينة من خشب اللاتيه 18 حسب المواصفات التي ستحمي الإنسان في الركض وتؤهل الجهاز بقوة.
هاتفته : غشيتنا يا أبو عمار ؟
قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. والله بغش نفسي ولا بغش زبون اهم من أخوي..له يا أم حسين.. زعلتيني هيك.
قلت بصوت مبحوح حيث لم يبق لدي طاقة إيجابية بعد كلامه الميت الخالي من المصداقية هذا:
طيب ممكن يا خوي يا أبو عمار تيجي وتصلح لنا درفة خزانة المطبخ الطويلة لأنها بدها تسقط ..قال : شو بدها وشو مالها؟
قلت : البراغي يمكن فالته!
قال : زعلتيني يا ام حسين ، لما قلتي غشيتنا يا ابو عمار .
قلت : ما عاش مين يزعلك.. تعال يا خوي قبل ما تسقط الدرفة يمكت تشلخ الخزانة. وتتعبك وتعطل شغل أبوابك للتربية.
قال : قولي لي يا ام حسين جربتوا جهاز الركض ؟
قلت : الله هالله ..يا سلام..تمام التمام.. يسلموا هالإيدين اللي ما نعدمهم والله إشي برفع الراس . .مين اللي قصها واشتغلها ؟ إنت يا ابو عمار وإلا الشباب؟
قال : له له يا أم يا حسين والله أنا بإيدي قصيتها خشب لاتيه 18 إيطالي جبته من مخازن خصوصي للقاعدة..
قلت : الله يبارك فيك.. ما شاء الله.. عليكم ..طول عمركم بتاكلوا حلال..
قال: بالله ليش يا ام حسين قلتي لي : غشيتنا يا ابو عمار ؟
قلت : بحب أمزح معك يا معلم.. يا شيخ النجارين يا أبو عمار.. هو فيه مثلك ؟
حضر أبو عمار للبيت واستقبله أبو حسين.. صنعت القهوة.. كان يشرب ويستعجل لإصلاح درفة خزانة المطبخ التي جلبته من أجلها.
قال أبو حسين: كأنك رجعت وجلبت لنا قاعدة الجهاز المضغوطة المكسورة القديمة يا أبو عمار ؟ وإلا أنا غلطان؟
قال أبو عمار : كيف يعني يا أبو حسين ؟ مش فاهم ؟
جلست وأنا احتسي القهوة وأدقق في عيني أبي عمار وملامحه :
لا.. يا ابو حسين.. أبو عمار حلف لي إنه قص قطعة الخشب بإيده لاتيه 18 ونعمها وعزلها ودهنها وجابها.
قال أبو حسين وهو يستمع لأيمان أبو عمار وكيف اتقنها وحفها ونعمها ودهنها:
اسمع يا أبو عمار.. أنا ما بدي منك ترجع النا الفلوس..لا والله.. أحتسب فلوسها صدقة عن اللي صار لابني من ورا شغلك وخشبتك.. لكن لازم تشوف اللاتيه الكذاب تبعك ، إذا كنت يا أبو عمار وفرت ثمن خشبة اللاتيه ، فلازم تعرف إنك ضيعت رزقة كبيرة من الله على حالك.. وكدت تضيع ابني من ورا الغش كمان.
قال ابو عمار : أقسم بالله بالعظيم إني ما غشيت
قلت : وترجع تحلف كمان ؟ أستغفر الله العظيم..خلص لا تحلف..عندك أولاد..وعيلة..عندك باب رزق يا بني آدم.
وقلت : إحنا ناديناك عشان تشوف بعينك..تعال.
شاهد أبو عمار الكارثة وفجأة لم يعد أبو عمار هو نفسه.. تحول طوله لأقصر كثيرا مما كان عليه.. أصفر الوجه ممتقع الملامح.
وصغرت عيناه .. وجمط ريقه فلم يستطع كانه اختنق .وأدركت أنه لأجل مبلغ من المال بلغ قلبه حنجرته..فكدت أشفق عليه والله.
أدرت وجهي عنه وأنا لا أتمنى ما لمسته على ملامحه من خزي.
قال ابو حسين : والله ما انا عارف شو أحكي معك وكيف ممكن أفهمك إنه الغش قاتل ومخزاة.
قال أبو عمار الغشاش وهو يتلعثم: كلها شقفة خشبة يا ابو حسين ..
قال أبو حسين : حتى لو كان بعوضة على مقلة أسد ! اتق الله يا بني آدم ..قطعة خشبة؟
قال وهو ينكمش : سامحوني..غلطة..فكرت إن الخشبة بدها شوية غراء وآغو ودهان جديد..
أوشكت أن أقول له : انسلخ عن وجهي ما بدي أحبسك..الله يسامحك..لكنني خشيت أن يطمئن ويمارس الجريمة هذه ضد غيرنا مرات ومرات.
لكنني تثاقلت على نفسي المتسامحة بحمد الله وتمالكت أعصابي ونطقت ما لم أعتد على قوله : روح ..الله لا يسامحك يا البعيد..
أقسم أنه سيعيد صناعتها..ويعيد المبلغ الذي استلمه.
قال أبو حسين : إطلع. والله عمرك ما بتدخل لنا بيت يا غشاش.
من غش فليس منا