كنا فقراء البتّة، بمفهوم الفقر المفرط، وكانت مدينة ملاهينا وألعابنا هي بالتحديد مزبلة طنوس، لكننا، ومع أننا فقراء تماما، فقد كنا نسأم، كبقية الكائنات، من مدينة الملاهي تلك، فنتوجه للبحث عن ألعاب أخرى خارجها، تتناسب مع البيئة الإجتماعية التي نحيا فيها ولا نرزق، مع إشتراط المجانية الكاملة لهذه الألعاب طبعا.
إحدى هذه الألعاب المجانية المبتكرة كانت بأن نحمل حجرا بحجم الكف ونطرق به طرقا قويا ومثابرا على كل عامود كهرباء نمرّ من عنده ، فتتحول الحارة فورا الى سلّة من الضجيج المحض، وتتعالى الصرخات من أهالي الحارة ، خصوصا اذا كنا نمارس هذه اللعبة الرائعة بعد الظهر، حيث الكثير من الناس نيام ، من قلّة الشغل ، على الأغلب.
وهكذا كنا نهرب من عامود الى عامود تاركين الصرخات والشتائم المدوّية خلفنا بلا أسف ،ونادرا ما كنا نتعرض لإلقاء القبض علينا ، لأننا كنا نعرف مداخل ومخارج الحارات جيدا ، ونقفز فوق سطوح البيوت الطينية المتقاربة ، ونخرج من مكان اخر ، وننتقل الى عامود آخر بكل رشاقة وسؤدد.كنا نستغرب لماذا يتضايق الأهل منا ويشتموننا، فما نحن إلا مجرد صغار يلعبون. أما الان، وقد اشتعل الرأس شيبا ، استطيع أن أضع نفسي أمام أهالينا المنزعجين، وأدرك حجم التلوث الصوتي الذي كنا نحدثه،لمجرد اللعب. وكم أنزعج حينما يتنطح أحد اطفال الحارة للموضوع ويشرع في الطرق على العامود المقابل لجمجمتي مباشرة، وهو ذات العامود الذي كنت أدندن عليه طفلا، وأكاد أن أعلن عليه الشتم، الا أني اتراجع حينما اتذكر نفسي عندما كنت من جيله.الان. كم اتمنى أن ننقل هذه اللعبة الى عالم السياسة، ونبدأ نحن الصغار سابقا، في استلام العواميد المحيطة والطرق عليها بحجارة بحجم الكف.
(الدستور)