باتت السلطات العليا في الدولة تسعى إلى الإصلاح بالمعنى الحقيقي بعيدا عن الكلام الذي لايطبق والذي أصبح نهجاً يستخدمه كل رئيس حكومة يصل إلى الرابع، فيكون أول برامجه الإصلاح ومحاربة الفساد وبعد مرحلة من رئاسته نجده بعيدا عن الإصلاح ويسعى ويساند الفساد من خلال التعيينات في المراكز القيادية القائمة على المحسوبيات التي تخلو من المنافسة ، نحن لا نريد الإغراق في وصف الحال ، لكن من يعيش في الأردن يدرك حجم الإشكالية في الإصلاح وخاصة السياسية منها ، فنحن أشبه ما نعيش في عصر ما قبل الحداثة السياسية القائمة على عنصر التوريث في المناصب والقيادة ، فبعض القائمون على مشروع الإصلاح بحاجة إلى إصلاح ، فالبرلمان مثلا لا للحصر يمثل صورة ديكورية كما ورد على لسان رئيسه الأسبق ولا يعبر عن تطلعات الشعب كسلطة رقابية وتشريعية، وأثبت ضعفه بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة من خلال مواقفه الضعيفة والمستجدية أمام الحكومة، فالمجلس القوي يجعل الحكومة تستجدي أمامه لكن هيهات نتيجة لقانون الإنتخاب الذي أفرزهم وعزوف المواطن عن المشاركة في الانتخابات ،وعند الحديث عن الحكومة تجدها تضم كبار موظفين أقرب منهم إلى مناصب الوزراء وصناع القرار، لذا فإن البلاد تعيش حالة من التراجع السياسي الشديد الذي مضى عليه أكثر من ربع قرن نتيجة التوريث والمحسوبيات وخاصة في الحكومات الأخيرة إذ لمسنا أكثر التعيينات فيها قائمة على عنصر الصداقة في العمل أو غيره بعيدا عن مصلحة الوطن العليا.
ومما لا شك فيه أن كثيرا من المكلفين في ملفات الإصلاح هم من الفئات التي تعادي الإصلاح السياسي وترى في قدوم الإصلاح إنتهاء لدورهم الحالي غير المستحق لهم في كثير من الأحيان، إضافة لما يحملونه من تصور بدائيا وتقليديا عن مفهوم الإصلاح.
إذ تعتبر الإدارة أهم عوامل النجاح بالحفاظ على قوة الذات بتسيير حركة الإنتاج وتحسين الأداء وحسن التصرف، وهذا هو الذي يمثل كفاءة الأجهزة الإدارية للدولة للحصول والوصول إلى إنجازات على أرض الواقع ،ومن خلال الإبتعاد عن الطرق النمطية التقليدية والتي تقضي على حركة الإبداع والإبتكار والتحول إلى اللامركزية وبكامل الإستقلالية الإدارية والمالية إلى جانب إشراك القوى المهمة وهي القوى المجتمعية في إتخاذ القرارات الهامة وتحمل نتائجها،فالدولة أحوج إلى تمتين اللُّحمة الداخلية ، وصهر جميع الإنتماءات من شتى المنابت والأصول في دائرة المشاركة السياسية التي تعمل على لم الشمل والوصول إلى الكفاءات المؤهلة التي تصبو إليها أنظار الشعب الأردني وطموحاته ، وتحمي الوطن من التردي والفساد وغزو اللصوص ومن يطعن الوطن في خاصرته وهذا لا يأتي إلا بالإنتخاب المتعدد.
فالإنتخاب المتعدد من خلال قانون انتخاب عصري يلمسه الجميع وبحركة إصلاحية تلغي أي صراع اجتماعي أو فكري ، بحيث تجعلنا نفكر معا ونقتنع بفكر نموذجي معا لكل قضايانا وحل لأزماتنا بتفاعل وطني من خلال الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والرجالات الوطنية والخبراء والعلماء وغيرهم ليمنحونا بخبرتهم عمق الوجود في وطن الخير والعطاء.
علينا البدء بمرحلة جديدة شاملة لتعزيز مكونات الدولة وعلينا أن ننظر إلى الوطن بصورة شمولية ولا تبقى حواراتنا وخلواتنا تدور حول الصوت الواحد الذي عزل المشاركة الشعبية عن معترك الحياة السياسية والذي فتح المجال أمام أصحاب الأموال من خلال المال السياسي للوصول إلى البرلمان وهمه الوحيد أعماله ومصالحه بعيدا عن همّ المواطن ومعاناته.
فالدائرة الضيقة لا تنهض بالوطن وتنمية الأوطان لا تأتي إلا بالتمكين السياسي الشامل العادل بمشاركة الشعب بأكمله.
فكثيراً ما نوّه جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين في خطاباته وبتوجيهات عديدة إلى أهمية التمكين الديمقراطي وأهميته في دفع عجلة التنمية في جميع جوانبها ، فلنبدأ بزرع جديد وإصلاح سياسي عملي على أرض الواقع بعيداً عن التأويلات والتكهنات بل قائمة على نية صادقة ووفية للوطن وقائده.
ما نعاني منه فعليا في وطننا، أن أصحاب القرار استسهلوا التعامل مع احتجاجات الناس على مبدأ مرحلة استثنائية ومن ثم تعود إلى نفس نهجها، رغم خطورة وكارثية نتائج مثل هذا التصرف.
وتكمن الخطورة أكثر عندما إزدادت نسبة البطالة التي وصلت إلى 50% حسب تقرير البنك الدولي فهي نسبة خطيرة، فالقَدرُ مهما استوعب من ضغط لا بد له من الإنفجار لذا المطلوب ببساطة هو العودة لقراءة جذور المشهد والتوقف عن نهج الحكومات السياسي والإقتصادي لفهم من أوصلنا لتلك المرحلة، إذ لم يعد الأردني يثق بكل ما هو رسمي ولماذا تتأزم مشاكلنا بدلاً من حلها أو تجميدها عند نقطة معينة بعيدا عن السياسة القائمة على المثل القديم أذن من طين وأذن من عجين.
فالمجتمعات التي لا تحتوي على علاقة الثقة ستبقى تجتهد في البحث عن الإستثمار وتلهث وراء جلب المال لتوطين منفعة استثمارية تسهم في رفع المستوى المعيشي للمواطن ورفد الجوانب الإقتصادية للمجتمع، بينما المجتمعات والدول التي تمتلك الثقة ولديها برامج اقتصادية مستدامة هي التي يبحث عنها الإستثمار ولا تبحث عنه، فالثقة والعمل الجاد هما الأساسان في بناء الدول الحديثة.
حمى الله الأردن ملكاً وشعبا، والله من وراء القصد.