الهوية الوطنية وهيبة الدولة الأردنية
أ. د. انيس الخصاونة
01-06-2021 12:17 PM
في غمرة احتفالات المملكة الأردنية الهاشمية بمئوية الدولة، وفي ظل تحديات جسام تواجه الإدارة العامة للدولة ،تأتي تداعيات قضية تجميد عضوية أحد أعضاء مجلس النواب على خلفية توجيهه لكلام مهين يتضمن تحقير لمجلس النواب لتضيف تحديا جديدا وخطيرا يعرض هيبة الدولة لاختبارات صعبة. تحشيد عشائري خلف النائب، وخطابات وفيديوهات تتضمن إستقواء واضح بالعشيرة، واستخدام مصطلحات يشتم منها التهديد لسلطة الدولة. الجانب الأخطر في هذه الحادثة هو ما تشكله من سابقة لتجمعات عشائرية أو مناطقية أو عرقية أو جهوية وكأنها دعوة لتحقيق المطالب وأخذ الحقوق بيد الناس بدلا من سلطة القانون (Taking the law into your own hands). ومع أن هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها، حيث سبقها بعض المطالب العشائرية وإظهار مظاهر الضغط والتحشيد العشائري، إلا أن خطورة هذه الأزمة تتجسد بانتقال الأمور إلى دائرة الفعل سواء بمظاهر المهرجانات، والخطابات، والمبايعة، والتهديدات، واستخدام مصطلحات تتعارض وسلطة القانون لم يسبق استخدامها على الإطلاق.
نعتقد أن القرار الذي تم اتخاذه من مجلس النواب قرار غير صحيح من الناحيتين الدستورية والسياسية، إذ ليس من المنطق حرمان دائرة انتخابية ومواطنين انتخبوا هذا النائب لتمثيلهم في مجلس النواب، كما أنه كان على المجلس أن يدرك إمكانية حصول تداعيات عشائرية تتعلق بتجميد عضوية النائب، خصوصا وأن انتخاب النائب المذكور جاء إلى حد معتبر بأصوات أقاربه وقبيلته وفقا لقانون الصوت الواحد سيء الذكر. لكن ذلك بالتأكيد ينبغي أن لا يشكل مبررا لقيام أحد أعضاء السلطة التشريعية بتهييج الناس على المجلس الذي ينتمي له رغم ما يحيط بهذا المجلس من علامات استفهام تتعلق بشرعيته ومدى تمثيله للشعب الأردني.
القضية التي نعتقد بأنها تستأهل اهتمام القيادة العليا في الأردن تتعلق بالهوية الوطنية (National Identity) وقدرتها على استيعاب أو صهر الانتماءات الفرعية سواء كانت عشائرية أو جهوية أو مناطقية أو حتى عرقية.
بعد مرور مائة عام على قيام الدولة الأردنية ما زالت الهويات الفرعية تتقدم على الهوية الوطنية، وما زال الانتماء العشائري يحظى بقوة أكبر وأمتن من المواطنة والانتماء للوطن. ما زالت العشائر لها بعثات ومقاعد في المؤسسات التعليمية، وما زالت المواقع الوزارية تتم على أسس مناطقية وعشائرية، وما زال الديوان الملكي يضم مستشاريه للعشائر، وما زالت الدولة تعترف بالقضاء العشائري مما يحيد القضاء المدني في بعض الحالات، وما زال أبناء بعض العشائر يحظون بالمواقع القيادية العليا في الديوان الملكي، ووزارة الخارجية، ومجلس الأعيان وغيرها استنادا لحظوة عشائرهم وليس لتنافسيتهم وجدارتهم.
محاربة الفساد والفاسدين لا تتم بالتمرد على سلطة الدولة أو التلويح والتهديد بها، وإنما تتم وفق القانون والدستور، ولا أعلم كيف يمكن أن تؤول الأمور في حال الرجوع عن قرار تجميد النائب، وكيف يمكن لعشائر أخرى أن تتصرف بالمستقبل في حال نشوء ظروف ومطالب مماثلة؟ أين هيبة الدولة وأين هيبة ممثلي الشعب (رغم علامات الاستفهام حول مدى تمثيلهم للأرديين)؟ وكيف سيتم احترامها من قبل الناس؟ وكيف يمكن التعامل مع مطالب شرائح مجتمعية متعددة أسماها الملك الراحل الحسين بن طلال طيب الله ثراه (شتى الأصول والمنابت)؟.
الخروج من هذا المأزق الذي أوقعنا به قرار مجلس النواب بتجميد عضوية النائب لا يكمن في رجوع المجلس عن قراره تحت ضغط عشائري لأن عودة المجلس عن قراره تؤذي ما تبقى من هيبة الدولة كاملة. نعتقد أن تعزيز الهوية الوطنية وتجذيرها يكمن في الإسراع بإعداد قانون انتخاب عصري وديمقراطي، بحيث يضمن هذا القانون التنافس والاختيار على أسس برامجية وليس في ضوء أسس عشائرية (عد ارجالك وارد الماء). من جانب آخر فإن تغيير قانون الأحزاب وتخلص الحكومة من الحالة الضبابية والهلامية المتعلقة بشرعية الأحزاب يمكن مع مرور الزمن أن تعزز من الهوية الوطنية ويمكن أن تكون الانتماءات الحزبية ضمن العشيرة الواحدة متعددة مما ينبثق عنه تراجع في القوة السياسية للعشائر.
حل مجلس النواب الآن ليس إجراء صحيح لأن هذا المجلس مطلوب منه أن يقر قانون الانتخاب ،وقانون الأحزاب، وقانون الإدارة المحلية ، وبالتالي كيف يمكن أن يكون حل المجلس هو حل للأزمة ،ومن سيقوم بتعديل القوانين التي تنتخب المجالس في ضوئها ،أو القوانين التي تنظم العمل الحزبي الذي يمكن أن يكون بديلا للدور السياسي للعشائر والقبائل الأردنية !
تجميد عضوية النائب المحترم كشفت عن أزمة أعمق وأخطر تتعلق بتقدم الانتماءات العشائرية والجهوية على الهوية الوطنية . نعم كشفت هذه الأزمة أنه وبعد مائة عام ورغم التقدم العمراني والمادي والتعليمي والقانوني الكبير فإن الهوية الوطنية ما زالت تزاحمها هويات وانتماءات فرعية اعتقدنا بأننا وبعد هذه المستويات من التقدم في التعليم والجامعات والمؤسسات قد تجاوزناها.
العشائر مكونات اجتماعية نعترف بوجودها وبجوانبها الإيجابية في التراحم والصلات والعلاقات الإنسانية المحترمة، ولكننا ينبغي أن لا نتعامل معها كقوة سياسية وكهوية بديلة عن الهوية الوطنية.
إن انخرط أجهزة الدولة في وضع قوانين انتخاب تحول دون إفرازات حقيقية للقوى السياسية، وتشجع العشائر على أن تشكل قطب الرحى في الوصول لقبة البرلمان قد أسهم في رسم الصورة الحالية لهشاشة الهوية الوطنية (Fragile National Identity)، وتنامي الانتماءات العشائرية والفرعية للمجتمع .ومما زاد الأمور سوء قيام بعض أجهزة الدولة بكل ما في وسعها لإحباط العمل الحزبي ووضع العوائق الإدارية والأمنية والإجرائية التي من شأنها تعزيز الانتماء للأفكار والقيم والبرامج بدلا من الانتماء لصلات الدم وروابط القربى واسم العشيرة.أخيرا فإننا نعتقد أن المشوار ما زال طويلا للانتقال إلى مرحلة المؤسسات ودولة القانون وأن عملا كثيرا ينبغي القيام به لتحقيق هذا الهدف وجعل "المواطنة" هي المعيار الذي نستند إليه في التعامل، وأن الهوية الوطنية تتقدم على كافة المعايير والانتماءات الفرعية للمواطنين.