يشتبك رئيس مجلس الأعيان في حوارات متواصلة مع القوى السياسية، ويفضل في هذا السياق أن يوصف المجلس بالغرفة العليا من مجلس الأمة، أو كما يسمى في خطاب آخر، مجلس الملك، وتخرج من الحوارات عناوين كثيرة، إلا أن العنوان الصاخب يمكن قراءته من خارج عصف الأعيان ويتمثل في صمت النواب.
ما زالت الأزمة التي تفاعلت مع النائب العجارمة تتدحرج، وتغيب وراءها تفاصيل كثيرة، وبقيت إلى اليوم مسألة انقطاع الكهرباء عالقة وغير مفهومة، والتهمت مداخلة النائب النارية وتبعاتها قضية مهمة في العلاقة بين السلطة التنفيذية والتشريعية، ومع أنه كان يمكن أن يستوعب المجلس بضعة دقائق ليتحدث النائب وليتحول حديثه إلى مجرد جزء من محاضره، دون التأثير على أجندة الجلسة، إلا أن القرار كان بتعطيل الميكروفون، وما الذي يريده أي نائب إلا الميكروفون؟
يمثل الميكرفون عقدة للنائب، وكم عايشنا حالات تطابق المثل: "أشبعناهم شتماً، وفازوا بالإبل" مع طوفان الانتقادات النيابية في جلسات الثقة والتي تتحول عند التصويت إلى "ثقة ونص"، وكأن النائب يعيش حالة من الشيزوفرينيا بين شخصيته "الميكروفونية" و"التصويتية"، وفي النهاية لا أحد يستمع للنواب، والجميع يدرك أنهم ليسوا "ممثلين لمصالح" كما يجب أن يكونوا، ولكنهم "أصحاب مصالح" وشتان بين الحالين.
أين النواب من ورشة الإصلاح، ما الذي يمنعهم من التحضر للاستحقاق الإصلاحي؟ هل سيجري كالعادة "تأطير" الإصلاح من قبل الحكومات؟ فيصبح السقف هو المسودة التي ستدفع للمجلس لمناقشتها، ألا يفترض بالنواب أن يكونوا "الفاعل" في إطار الإصلاح، بوصفهم ممثلين عن الشعب؟ ألا يحتاج النواب إلى الجلوس مطولاً لعصف المستجدات وتوزينها؟
لماذا يدخل المجلس في أزمة محملة بالأسئلة الصعبة والشائكة، بل والخطيرة، في وقت كان من الأجدى استثماره لالتقاط اللحظة المتاحة والمشاركة البناءة في الإصلاح؟
لا يوجد إصلاح مجاني، الإصلاح في جوهره صراع، صراع بين المستفيدين من الوضع القائم والمتطلعين لتغييره، بين من سيفقدون مساحةً هنا وصلاحية هناك، ومن سيلتقطون ذلك، والصراع ليس مفهوماً سلبياً، ولكنه المفهوم الأوضح والأقرب للجدل، والتاريخ يتطور جدلياً.
تتوجب الإشادة بجلسات العصف الذهني التي يقودها رئيس مجلس الأعيان، ولكنها غير كافية، فالأعيان يبقى جزءاً من الـ"فوق" في عملية الإصلاح، ويجب أن يتحرك الـ"تحت" بصورة فاعلة، لأن ذلك هو ما سيصنع التوازن ويصل إلى النقطة الوسط المرضية مبدئياً ومرحلياً.
بالمناسبة، على هامش العصف الذهني في الأعيان يعلق د. نبيل الكوفحي حول حرمان المعارضين وأبنائهم من الوظائف، وهو الأمر الذي يمكن الأخذ والرد فيه، ولا سيما أن كثيراً من أبناء المعارضين يعملون أصلاً في مؤسسات الدولة، كما أن معارضين تقليديين وصلوا إلى مناصب متقدمة في الدولة.
القضية ليست في التعيينات التي أصبحت أساساً في حدودها الدنيا منذ سنوات، ولكنها في نوعية معينة من التعيينات أخذت تتوزع في إطار نخبة سياسية محدودة ومنها نخبة المعارضة، التي يتاح لها المجال للتعيين بمبدأ "تفضلوا.. الميدان مفتوح أمامكم"، ولنعترف أن الإصلاح يفترض أن يشتمل على الميدان في حد ذاته، أي طبيعة العلاقات بين القوى الفاعلة سياسياً، أي الإجابة عن أسئلة التمثيل الشعبي أو المشاركة، والممارسات التي تقوم لتحقيق التوازن الأمثل بين السلطات الثلاثة، ومعها سلطة الإعلام التصحيحية التي تلفت الانتباه لوجود الخلل.
مجلس النواب، بحالته الراهنة، بكل عيوبها وسلبياتها، يبقى كثير من أعضائه ممثلين لعالم الـ "تحت" بكل ما يعيشه من تشوه والتباس، وهو ما أظهرته الأزمة الأخيرة، وعليه ألا يترك الساحة للـ"فوق" التي تشمل بالمناسبة المعارضين التقليديين والذين يعتبرون جزءاً من النخبة، وفي مرات كثيرة كانوا الحائط الذي تستند عليه المعادلة المختلة، ولو لم يكن للمجلس من دور سوى التعبير عن كل تناقضات المجتمع الذي يمثلونه فهو الدور المطلوب حالياً بلا زيادة أو نقصان، ولنترك جانباً مسألة المشاركة في الانتخابات الأخيرة التي جرت في ظروف صعبة، حيث هي لعبة تنتمي لعالم النخبة السياسية التي يجب تجديدها، وبما في ذلك المعارضة التقليدية، فالنواب لم يكونوا مختلفين جذرياً لو كانت نسبة المشاركة 70% لأن المشكلة الأساسية في بنية قوانين الانتخاب والأحزاب وحزمة التحفيز السياسي الذي فشلت جميع الحكومات السابقة، والمعارضات أيضاً، في تقديمها.