مسار البتراء درة العرب الوردية (صور)
عبدالرحيم العرجان
29-05-2021 11:37 AM
البتراء درة العرب الوردية عاصمة التجارة والثراء وأرض الشعر ومصدر الإصرار والفكر، لا مدينة تشبهها في العالم أو بقدر دهشتها.
اخترنا مسارنا ليكون بدرب ملوك وأمراء العرب على تراب كبار قادتهم الذين خلدت أسمائهم على مدى التاريخ، بالجزء المتعارف عليه ضمن الخارطة السياحية انطلاقاً من مدخلها المعتاد.
قطعنا تذاكرنا مع الصباح الباكر من مركز الزوار متجهين بشوق للمدينة التي أسرت قلوبنا بمسار استجمامي بمرحلتين نهارية وليلية، وما بين المدخل والسيق مررنا بقبر الحيتين عبر ممر الضيق على يمين الطريق الذي استمد اسمه من نقش ثعبانيّن بينهم حيوان وحصان، ومن المتعارف عليه أن رمزية الثعبان للحماية والحصان قد يكون الوسيلة لحياة الآخرة ما بعد الموت، وليس بالبعيد عنه قبر المسلات على الجهة المقابلة، بطابقيه والذي يعلوه أربعة مسلات مقابلها مضافة أصلح -بمحاربها العشرة وكتب عليها- :"هذه هي الحجرات والآبار التي أنشأها أصلح بن أصلح على شرف ذي الشرى في عهد ملك الأنباط بن الحارث" وتعد أقدم ما اكتشف من كتابات نبطية لغاية الآن، من بعده المكعبات الصخرية المعروفة بقبور الجن.
وعلى مدخل السيق وقف جنديان بحالة تأهب بكامل عتادهم تحت ما تبقى من قوس المدخل الذي دُمر بزلزال قبل مئة عام وظهر كاملاً برسومات المستشرق ليون دي لابوردي 1838م وما هي إلا أمتار حتى تشعر بطاقة المكان تتخللك وسط دهشة ارتفاع الفج الصخري الظليل بما فيه من محاريب وآلهة ورموز دينية وقناتي ماءٍ عذبٍ على جانبيه، يأخذك علو الصخر وتكويناته وذكاء الطبيعة بتحديد مجرى الهواء عبر انحناءاته التجميعية وملامح السعادة تعتلي وجوه العائدين من زيارة المدينة.
وعند انحناء السيق الأخير وأمام الخزنة التي تظهر فجأة تقف الهيبة والدهشة مع روعة اجتماع سحر الطبيعة وإبداع الإنسان لتكون أيقونة من أيقونات فنون العمارة العالمية، فما من صديق رافقناه إلا ووقف مذهولاً أمام هذه الأعجوبة الخالدة لتظهر بإبداعهم الفني والأدبي من زوارنا لجاليري قدرات وغيرهم من ضيوف الملتقيات التشكيلية وأصحاب الفكر والرسالة.
الخزنة غدت أيقونة معمارية بما احتوته من كل مقايس الجمال وأصول العمارة من أفاريز وتوريقات وأشكال آدمية وحيوانية ورموز دينية لمعتقدات مختلفة والتي توافق بين خطوطها المعمارية وتكامل تكويناتها براحة بصرية دون أي انحراف أو تشويش في عناصرها المنحوتة بتجانس مع روح الجبل، أما داخلها الذي كان يوصد بباب خشبي ضخم فهناك ثلاث حجرات بها كوات لوضع نواميس الدفن والطقوس الجنائزية.
وعبر سيق قصير آخر وصلنا للمدافن الملكية المنحوتة بغربي واجهة جبل الخبثة وصولاً لضريح الجرة "المحكمة" ذات الاستخدام والعمارة المشتركة العربية صاحبة الأرض وما بناه الغزاة المحتلين إضافة لتحويلها إلى كنيسة بالعصر البيزنطي، ليكون منْ على شرفتها استراحتنا الأولى مع عصائر ومرطبات اشتريناها من الباعة حول المكان، لنصعد الجبل بدربه الحاد المتعرج من خلف المحكمة وصولاً إلى رأسه المطل والمشرف على قلب المدينة بكل ما فيها.
استكملنا الدرب الترابي الممهد لمطل الجبل على الخزنة وساحتها الذي وقف عليه الزوار بالدور للحظي بصورة بهذا المشهد الرائع فوق مستوى الجرة المغاير للأيقونة الخالدة وسط ترحاب صاحب الاستراحة البسيطة التي اعتلت المكان، لنعود عبر درب الجبل عابرين أدراجه القديمة والمستحدثة وما تخللها من مواقع ونقوش وكتابات وبوابة الطريق الصخرية عند نهايته قرب المعبر المائي لوادي المظلم، لنعود ونستكمل الواجهات الملكية الواحدة تلو الأخرى مروراً ببيت دورتيوس الغير مكتمل نحته ومن فوقه قناة مائية ومن بعده ضريح سكتيوس فلورنتينوس حاكم المقاطعة العربية أبان الأمبراطور هدريانوس وبه كتابة تشير إلى اسمه، وضريح القصر ذو الثلاث طبقات بتصميم باروكي ومشابه لقصر أشور وايوان كسرى العظيم بالعراق، وبجانبه الضرويح الكورنثي المنسوب اسمه لطراز عمارته بخمسة حجرات، منهين بذلك سلسلة الواجهات فائقة الروعة.
ومن هناك اتجهنا للتركمانية والذنيب ومعصيرة بجبليها الشرقي والغربي وما فيها من تكامل مدني تاريخي من واجهات ومدافن وخدمات ما زال بعضها مأهولًا بالسكان المحلين لعشيرة البدول وأجملها عند الجهة المطلة على التقاء وادي موسى بوادي الدير، ليكون غداءُنا واستراحتنا الرئيسية في المطعم السياحي المقام عند تلك النقطة المقابلة لقصر البنت وقلعة الحبيس.
وبعد استراحتنا أخذنا دربنا لوادي السيغ المقابل للمطعم بين كهوف ومغاور حفرت بدرجات وارتفاعات مختلفة بواجهة الجبل يصل بينها دروب وأدراج قديمة كان معظمها مسكن وبيوت لأجدادنا العرب الأنباط وزين جوف إحداها بزركشات جصية استخدم بتلوينها ألوان وأكاسيد معدنية وتعتبر من النوادر النبطية وما يماثلها وجد في السيق البارد، استمررنا بالمجرى المتعرج غربي الاتجاه بين ما كان مقالع لحجارة البناء وظهر فيها علامات القص والترقيم الهندسية وحركة أزاميل القطع بشكلها النصف دائري وما بينهن من مساحات غدت بساتين وكروم غناء لأهل المكان تسقى من عين الوادي الذي نسب اسمه إليها المنتهي بوادي عربة قرب قصر أم رتام، لنعود أدراجنا نحو منتصف الوادي سالكين الشعاب الملتفة حول جبلي أم لبيارة والحبيس.
شعورٌ بعظمة الطبيعة وأنت تنظر من قلب الوادي لقمة الجبل الشامخ أدومي الأثر وكيف طوعه القدماء وسكنوا مشارفه!
أخذتنا الشعاب الصخرية لبداية الدرب الجنوبي؛ المدخل الوحيد للحبيس عبر طريق التفافي قطعته عوامل الزمان ليرمم للوصول إلى قمته التي كانت قلعة صليبية مشرفة على كامل قلب المدينة ومسيطرة على مدخلها الجنوبي المحاذي لعامود فرعون كما يسمى،وبين مغاورها وكهوف الجبل التي كانت لعهد قريب متحف البتراء قبل أن يتم استحداثه بآخر عصري على مدخل الزوار وجد فيها نقش ذكر الملكة فصائل ابنة الملك الحارث الرابع حيث كان النظام النبطي يمنح بنات الملك وزوجته هذا اللقب ولا يحمله من أبنائه إلا من كان ولياً للعهد وهذا دليل قاطع على مدى أهمية ومكانة الأنثى لدى العرب منذ فجر التاريخ، وقمته محدودة المساحة التى تستحق أن تكون استراحتنا الأخيرة قبل العودة لقلب المدينة والخروج عبر السيق من حيث أتينا.
وبهذه الزيارة أردنا أن نحظى أيضا بمشهد الغروب وكيف تعانق الشمس جبال الشراة، فما كان لنا إلا فندق فاخر أقيم على مطل المدينة ومشرف على مدخلها وشعاب أوديتها، لنعود بعد استراحتنا وحلول الظلام مرة أخرى للمدينة.
وزيارة المدينة في الليل أمر آخر وشعور آخر بليلة شموع وردية تقام نهاية كل أسبوع إبتداءً من مركز الزوار لغاية ساحة الخزنة التي فرشت بسجاد محلي من صوف الماعز ونقوش وزخارف من صلب المكان، وكيف صوت الناي أنسل حامله من قلب الخزنة وحاوره عازف الربابة وشاعر اعلتى صوته المكان بلا أجهزة بأجمل قصائد الشعر النبطي ، وكيف هذا الهدوء المخيم تحت نجوم السماء واكتمال القمر يعيدك ألفين ومئتين عام إلى الوراء.
وبذلك نكون قد ختمنا مسارنا الاستجمامي بقطع مسافة 27كم لنعود ونكمل ليلتنا في فندقنا على رأس الجبل مستذكرين ما دوّنه المستشرق وليام ليبي 1902م بقوله "أن كل زيارة للبتراء تزيد من إعجابنا بها واكتشافنا لجمالياتها فتعمق سحر عظمة صمتها، فقوتها هي ذات القوة السابقة إلا أنها تغّيرت حسبما نراها في ضوء القمر وعند بزوغ الشمس وغروبها وتحت زخات المطر".