ذهبتُ من الأردن إلى فلسطين عام 1984 لالتحق بالمعهد الإكليريكي في بيت جالا الذي يدرّس الطلاب الذين يتخرّجون كهنة في البطريركية اللاتينية. وفي عام 1987، وهي السنة التي تمّ فيها تعيين البطريرك العربي ميشيل صبّاح بطريركًا على مدينة القدس، كان عليّ أن أقدّم للدراسة الثانويّة، وكانت وزارة التربية والتعليم الأردنيّة مسؤولة عن مدارس الضفة الغربيّة. واشتعلت الانتفاضة الشعبية الأولى بطريقة مثيرة للاهتمام العالمي، وتمّ تقديم امتحانات الفصل الأول بين المدّ والجزر، وبين الإضراب الشامل الذي أعلنته منظمة التحرير الفلسطينيّة، وايام الفرج التي اتيح لنا بها أن نقدم الامتحانات في مدرسة تيراسنطة في بيت لحم. وفي الفصل الثاني تم احتساب نتائج الفصل الأول للفصل الثاني أيضا كمكرمة من جلالة الملك المرحوم الحسين بن طلال. وقد أكملنا بعدها الدراسة بحمد الله ورعايته.
وفي عام 1991، في أثناء حرب الخليج، كان القرار المجحف بإغلاق مدينة القدس في وجوه الفلسطينيين وفي وجوهنا نحن الطلاب الذين كنّا معتادين على الذهاب إلى القدس للصلاة فيها. وكان مؤلمًا جدًا على الشعب الفلسطيني وعلى كلّ إنسان مؤمن أن يرى القدس قد أغلقت في وجهه، ولم يتم السماح للوصول إلى الأماكن المقدسة للعبادة والصلاة إلا لأعداد قليلة وبتصاريح مزعجة.
تركتُ فلسطين في عام 1995، وعملت منذ 26 عامًا كاهنا في الرعايا الأردنيّة وفي الاعلام الكاثوليكي. ولكن الحنين الدائم هو للقدس والمقدسات ولفلسطين الحبيبة. ولدى سماع الأخبار عن كلّ الانتفاضات والثورات الشعبية، وأيضًا العدوان الإسرائيلي على غزة بشكل متواصل، يحدث دائمًا الألم والاهتمام البالغ بأنك لا تهتمّ بأمر خارج عنك أو تسمع أخبارًا عن دولة بعيدة، إنما أنت ترى أشخاصًا تعرفهم وشوارع وأزقّة قد سرت فيها ومقدسات قد رفعتَ الصلوات فيها.
لذلك قد تألّمت كثيرًا في هذه الأيام حينما كنت أرى آثار العدوان ومنع المصلين من الوصول إلى الأماكن المقدسة، والاعتداء على رجال الدين المسيحي في شوارع القدس بينما كانوا متوجهين نحو كنيسة القيامة. هذه أعمال تدلّ على قصر النظر لدى الاحتلال، وعلى التعصبّ الذي يتيح لأبناء ديانته أن تتوجّه إلى أماكن العبادة، بينما تمنع هذا الحق عن المسيحيين والمسلمين.
أما بالنسبة لغزة، فالألم أيضًا كبير، وبالأخص حينما شاهدنا الأطفال يبكون أو يقتلون، أو يتوجهون في يوم عيد الفطر بدل الألعاب واللهو إلى المستشفيات والعيادات. كم كان أطفال غزة يرتدون ثياب العيد، و طالهم من العناء الكثير وأمضوا ساعات العيد الغالية على قلوبهم في غرف الطوارئ.
وأيضًا شاهدت كاهن رعية اللاتين في غزة، الأب جبرائيل رومانيلي، يقوم بواجبه الرعوي كصديقٍ وأبٍ لكنيسته، وللمسيحيين في غزة، الذين لا تتجاوز أعدادهم الألف شخص، ولكنهم يقدمون الخدمات الإنسانية والثقافيّة لجميع المواطنين ، من خلال مدرسة راهبات الورديّة التي تعتبر من أفضل المدارس في مدينة غزة. وهنا أشير إلى راهبات الورديّة العزيزات، وإلى ابنة خالتي رئيسة الراهبات الأخت مارتينا بدر التي تفقّدت ديرها ومدرستها فوجدت التشققات الكبيرة في أساسات البيت والمدرسة اللذين سقط في محيطهما عدد كبير من صواريخ الكراهية. وهي تعمل هناك منذ أكثر من 17 عاما، فلها ولكل أخواتها الراهبات كل التقدير والثناء.
صمتت لغة الصواريخ والحرب والعدوان، ونأمل ألا تتكرّر من جديد، ونضرع إلى الله العلي القدير، ونضم أصواتنا إلى أصوات إلى كل المخلصين الأوفياء الذين خرجوا في الشوارع وساحات العالم يقولون: لا للظلم، ولا للعدوان، ولا للوحشيّة، ولا للعنف الذي يمارسه الاحتلال تجاه الشعب الفلسطيني. ونقول مع قداسة البابا فرنسيس الذي نُحيي في هذه الأيام الذكرى السابعة لزيارته إلى الأردن وفلسطين، حين وقف في المسجد الأقصى المبارك وقال: "لنحترم ونحب بعضنا بعضًا كأخوة وأخوات! لنتعلم أن نفهم ألم الآخر! ولا يستغلنّ أحد اسم الله لممارسة العنف! ولنعمل معًا من أجل العدالة ومن أجل السلام!".