الاستقلال بمعناه المباشر هو التخلص من هيمنة وسيطرة دولة اجنبية بالقوة على ارض ومقدرات وارادة دولة اخرى، اضعف منها بالطبع، وعند رحيل آخر جندي من جنود الدولة المستعمِرة تعلن الدولة المستعمَرة استقلالها.
لكن الدول المستعمِرة ومعظمها تنتمي للجزء الغربي من الكون لا تشبع من نهب ثروات الدول المستضعفة ورصيد الاهداف عندها لا ينضب ولا تسلم منه دولة، ولان العالم لا يحتكم الا للغة القوة والمصلحة ما زالت دولة الاستكبار والاستعمال تفتش عن مكاسب ومنافع لها في اراضي الدول التي كانت تستعمرها لادامة قوتها من خلال السيطرة على المواقع الاستراتيجية من مضائق وممرات بحرية واستغلال ثرواتها كالنفط وغيره عن طريق ارغامها على ابرام اتفاقيات اذعان طويلة الامد.
الهيمنة والجشع والتسلط والتوحش صفات اصيلة لدى معظم دول الغرب التي تجيز لنفسها عمل اي شيء حتى وان كان غير شرعي او قانوني لتحقيق مصالحها ومصالح الدول الحليفة لها، وهذه الدول لا تعدم وسيلة كي تعود لممارسة هيمنتها وتحكمها بقرار الدول التي خرجت منها صورياً.
احد اهم اساليب الاستعمار الجديد هو ما نشهده من اغراق الدول المستهدفة بالديون وتشجيع الطبقة السياسية فيها على الفساد ونهب المال العام لاضعافهم وضمان موافقتهم على اي اتفاقيات تخدم مصالح هذه الدول.
عبر المسؤولين الفاسدين يعود الاستعمار، هؤلاء ومعظمهم طارئون منبتون يقدمون مصالحهم ومصالح ابنائهم على مصالح الوطن والشعب، ولا يهمهم ان تدهور الوطن او غرق في الازمات لانه بالنسبة لهم فندقا ومطار.
هذه الطبقة من السياسيين الاجراء لهم مهام محددة بعناوين مختلفة، تبدأ المهام عادة بأكذوبة التحديث والتطوير، وهذا يتطلب بيع الاصول وادخال اجسام جديدة على هياكل الادارة من اجل اضعافها وفي الاثناء يتم ضخ سيولة مالية في الدولة مع غض نظر عن فساد صغار الموظفين لان مثل هذا السلوك يوسع قاعدة الفساد ويزيد اعداد الفاسدين مما يصعب المحاسبة.
هكذا تكون البداية التي تؤدي بالضرورة بعد فترة الى اضعاف مؤسسات الدولة وعجزها عن تقديم الخدمات للمواطنين ما يثير غضبهم واحتجاجهم، فيتم اللجوء الى المؤسسات الدولية لتقديم النصائح والدعم المالي ضمن برامج تضيق على الناس معيشتهم بحجة التصحيح.
الدول الكبرى لا تتعامل مع الدول الصغرى وفق مبدأ الجمعيات الخيرية ولا تقدم خدماتها مجاناً، ومن منطلق الحاجة لا يكون امام الدول الصغرى سوى القبول بشروط الدول التي تتطوع للمساعدة.
وبعد ان ينجح السياسيون الفاسدين في تحضير الارضية المناسبة لعودة الاستعمار بصيغته الجديدة، يقع على عاتقهم وحدهم ضمان بقائهم، بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية، لانهم بالنسبة لمشغليهم اجراء قبضوا ثمن المهام التي اوكلت اليهم ولا بد من البحث عن وجوه جديدة تصلح للمرحلة القادمة.
هذا ما حدث في غير دول عربية تم التخلي عن الطبقة التي ساعدت الخارج على ابناء جلدتها والتي اغرقت البلاد في فوضى عارمة ما زالت تعصف بحياة شعوبها.
اذن استقلال الدول بدون حماية ورعاية يسهل زعزعته وتحويله الى شكل بلا مضمون ولا معنى للاستقلال اذا فقدت الدول اجزاء من اراضيها او فشلت المؤسسات ولم تعد قادرة على تقديم الخدمات الاساسية للمواطنين، المثال واضح وجلي في العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان والسودان، هذه دول ادخلها الفاسدون في دوامة العجز والانحلال لا فكاك منها ولا من المستعمر الذي دخل من الثقوب الواسعة التي احدثها هؤلاء الفاسدون.
بمناسبة العيد الخامس والسبعون لاستقلال وطننا الاردن علينا ان ننظر حولنا ونتعلم الدروس لنُجنِّب بلدنا وانفسنا ما وقع فيه غيرنا، فالاستقلال الذي نحتفل اليوم بذكراه ونتفيأ ظلاله وننعم بمنجزاته، يحتاج منا الى بذل الغالي والنفيس لحمايته وصونه وفاء لجهد وجهاد الآباء والاجداد، وهو امانة في اعناقنا واجب المحافظة عليها فرض عين على كل واحد منا.
معركة حماية الاستقلال لا تقل بحال عن معركة انتزاعه وكنس ادواته، وفيها تظهر معادن القادة والشعوب فإما الحرية او العبودية والارتهان ولا منزلة بين المنزلتين.
ان اقلام التاريخ لا تجامل ولا تجمِّل بل تدوِّن الحقائق كما هي وكما قرأنا عن غيرنا سيقرأ ابناؤنا عنا، وعلينا ان نختار بين ارث يثقل جيوبهم بالمال السحت ويطأطأ رؤوسهم بالخزي والعار، أو إرث يرفع هاماتهم وقاماتهم نحو السماء ويملأ صدورهم بالفخر والعزَّة.
الرأي