كأنّ وزير الدعاية النازي جوزيف غوبلز بيننا؛ يتجوّل في الأسواق، ويطلّ عبر شاشات التلفزيون وعبر الإذاعات وقنوات «يوتيوب»، وتراه معتكفاً آناء الليل وأطراف النهار وراء شاشة الكمبيوتر أو الموبايل، ليبث أكاذيبه في فضاء «سوشيال ميديا» مبشّراً باستئناف عهد الفبركة وترويج الشعوذة السياسية وابتداع التزييف.
في كل منعطف، وبعد أي حرب، وفي ظل أي صراع، وحيث تضطرب الرؤية وتتأجّج العواطف، يجد غوبلز وأنصاره الفرصة مواتية لنشر التضليل واختراع «الحقائق». لم يمت غوبلز، كما ظننا. إنه يُبعث حياً، ولكن بأساليب أكثر تعقيداً وأشد ذكاءً، وباحترافية يقف وراءها خبراء مَهَرَة. لم يعد الكذب هواية، صار صناعة المحترفين.
«بروباغندا» التي وظّفها وعزّزها غوبلز لترويج خرافات العهد النازي، وأحلام هتلر التوسعية، والتبشير بدولة نقية الأصل، زرقاء الدم، للجم الدول الطموحة في أوروبا ومحيطها، تجد الآن أعلى ذراها في ظل الاستقطابات الإقليمية والحروب الصغيرة الدائرة حولنا، وتحيط بأرواحنا إحاطة السوار بالمعصم. فأين الملاذ؟ وأين المفر؟
لا يدرك خطورة (Fake News) من يقلّل من شأن الأكاذيب التي يقذف بها، على وجه الخصوص، محيطُ «سوشيال ميديا» الهادر. صحيح أن ثمة أكاذيب لا تنطلي على أحد، ويمكن دحضها بالنظر المتعمّق، ولكنّ بعض الأكاذيب مشغولة باحترافية عالية تنطلي على متخصصين.
وقد وصلت إليّ مراراً أخبار وفيديوهات «مفبركة» من خبراء وأساتذة إعلام وصحفيين ذوي علم واسع، ولكنّ المزيفين خدعوهم بالمهارة الشديدة، وقراءة السياق النفسي للحدث، بحيث يتوهم المتلقي أنّ الأمر ممكن الحدوث، وثمة إحداثيات حقيقية تدعمه، وهذا أشدّ أنواع التزييف فتكاً.
النفس ميّالة بطبعها إلى التصديق. الشك يأتي في مرتبة تالية من تدقيق الحقائق لا ينشغل بها الجمهور العادي. وثمة من يتعامل مع «سوشيال ميديا» بخفّة، ويتخذها منصة للترفيه والترويح عن النفس، ولكنّ هذه الفكاهة مفخخة، ترمي إلى دسّ السم في العسل، وعدم التأشير مباشرة إلى المغزى. إنها تلعب على أوتار التوازن والنزاهة والإنصاف وإتقان السبْك، ولكنّ خيطاً رفيعاً يتوارى من بعيد يكشف الخدعة الماكرة.
أنا بطبعي شكّاك، وأدرّب طلبتي في الجامعة على منهج الشك الديكارتي باعتباره وسيلة آمنة، إلى حد كبير، للتقليل من حجم الخديعة المعرفية، وأقول لهم مبالغاً ما قاله آخرون: «إذا قالت لك أمك إنها تحبّك، فعليك أن تشكّ في ذلك»!
بيْد أنّ الوضع الراهن أشد تعقيداً، ولا سيما مع انتشار التكنولوجيا الحديثة التي تتعامل مع البرمجيات العصبية المتقدمة في قراءة الشفاه وتعابير الجسد، بحيث تستطيع أن تفبرك خطاباً لزعيم أو مسؤول أو شخصية مشهورة بتقنية التزييف العميق (Deepfake) التي تمّ من خلالها إنتاج أفلام هابطة مزوّرة لنجمات في هوليوود من أمثال تايلور سويفت وغال غادوت ومايزي وليامز، وغيرهن.
كما تمّ من خلالها تزوير خطاب تلفزيوني للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما. ويُجرى أيضاً عبر هذه التقنية التدميرية الاحتيال المالي، وتزوير لوحات فنية خالدة لأعظم الرسامين في العالم.
لم يعد الأمر عمل هواة يقصدون تزجية الوقت أو التسلية أو إضحاك الآخرين وإبهارهم.
الآن تتم الاستفادة من تقنيات العلم، وبخاصة الشبكات العصبية (Neural Networks) وهي فرع من الذكاء الاصطناعي، تعمل على إنتاج نظام يقوم بمحاكاة عقل الإنسان من خلال بناء شبكة تشبه شبكة الخلايا العصبية في المخ، اعتماداً على شبكات (GAN)، أو «النمذجة التوليدية» باستخدام أساليب التعلّم العميق عبر اكتشاف وتعلّم الانتظام في بيانات الإدخال تلقائياً بطريقة يمكن من خلالها استخدام النموذج لإنشاء أو إخراج أمثلة جديدة كان من الممكن استخلاصها من مجموعة البيانات الأصلية.
وما يمكّن هذا العمل من تحقيق نجاحات هو اتكاؤه على قاعدة البيانات الضخمة (Big Data) للبشر التي صار أغلبها متاحاً ومجانياً، أو من السهل الحصول عليه.
في زمن أضحى من الصعب فيه المحافظة على الخصوصية المطلقة، يتسلّل القراصنة من كل حدب وصوب، ويعبثون بالحقيقة، ويفبركون. وإذا كانوا محزّبين أو أعضاء أيديولوجيين، فإنّ المعركة تصبح أكثر ضراوة، ويتعين مواجهتها بالأدوات ذاتها، وبطريقة أكثر نجاعةً وتفوّقاً، على قاعدة «وداوني بالتي كانت هي الداء».
(البيان)