رحم الله الحبيب سليمان عرار، فبالاضافة إلى كونه سياسياً بارعاً، ظلّ طوال عمره يحمل مَلَكة الطُرفة البدهية، وفي ليلة من أيام إنتخابات العام ١٩٨٩، قال لنا: والله مش عارف من وين طلعلنا عبد الكريم، بنروح على وادي موسى فيقولوا لنا أبو عون كان هون… بنرجع على معان بيقولوا الكباريتي كان هون، وين ما بنروح الزلمة يسبقنا، والله شكله (سوبر مان)، مش ملحّقين عليه!
وبالطبع، فقد كانت الضحكة البهية هي ما ينهي فيها الراحل أبو محمد كلامه، وفي حقيقة الأمر، ففي تلك الايام لم نكن نعرف من هو عبد الكريم الكباريتي، ولكن أسابيع قليلة كانت تفصلنا عن بروز نجم في السياسة الاردنية، فقد نجح أبو محمد وفاز أبو عون، وصار الأول رئيسًا لمجلس النواب، ولم يكتف الثاني بالنيابة وتعدد الوزارات، بل وبعد ست سنوات، كان أمام الحسين، يُقسم بالله العظيم: أن يكون مخلصاً للوطن والملك وان يحافظ على الدستور، وقد أصبح رئيس الوزراء!
بين هذا وذاك، كان الرجل يسجّل حضوراً استثنائياً، بين رجال جيل جديد، منتخبين من الشعب، أراد من خلاله الراحل الحسين إعادة إنتاج النخبة الأردنية، ولأن الكباريتي كان يمتلك أدوات التواصل بين كافة الاطراف الفاعلة، فقد قُدّر له أن يقنعها جميعها بأنه رئيس الحكومة المنتظر!
وكنتُ من هؤلاء، فقد أقنعني أداؤه الجريء في كل المواقع، ولمّا مررتُ في مواقع صحافية متقدمة ومؤثرة حينها، فقد تخلّقت بيننا علاقة صداقة واحترام. ولو من بعيد، لم تخل من اتصالات مباشرة متعددة، ولا أنسى في يوم أنه كان الوحيد من السياسيين الاردنيين الذي تواصل معي، حين كشفت ونشرت مسودة اتفاق اسرائيلي فلسطيني، هي أصل اتفاق أوسلو، والتقينا، فلاحظت حجم نباهته وقُدرته على الاستشراف، ولم يبخل عليّ صديقي الأستاذ الصحافي أحمد سلامه، ليلتها بقوله: سيكون رئيسًا للوزراء، وهي مسألة وقت!
تُرى ماذا ستقول الآن يا أبا عون عن أوسلو؟!
مجرّد سؤال!
لستُ هنا أتحدث سوى عن عبد الكريم الكباريتي، ولا أستعيد من ذكريات، وهي كثيرة، إلاّ لاستحضار مسيرة رجل ظلّ رجلًا وفارساً في مختلف مواقفه، ولا يمكنني أن أتغافل عن ذكر أنه كان قاسياً في خلافات سياسية مرّت، وكنتُ بينها، ولكنه وفي كلّ الاوقات ظل يثبت أنه عابر للخلافات، والاختلافات، حتى لو نالته بالظلم، فصحّح وصوّب، كما صحّحنا وصوّبنا، وفي آخر الأمر فقد أثبت أنه بين قادة سياسيين أردنيين تتملّك منهم الخدمة العامة بوصلة لا تحيد عن صوابها…
عبد الكريم الكباريتي ليس رجلاً عابراً، وقد آثر أن يعود رضياً مرضياً، من قمّة السياسة، إلى حيث بدأت عائلته في الاقتصاد، ولا ينكر جاحد أنه صنع من بنك عادي واحداً من أعمدة النظام المصرفي، ولا يجحد ناكر بالقول إن المناسبة السنوية للبنك، في التصريح عن أعماله، ظلّت مناسبة مع خطابه المنتظر لاستشراف ما سيأتي من مستقبل…
أبو عون الكباريتي إختار أن ينسحب، الآن، تماماً كما اختار أن يقود، قبلها، وخياراته دوماً صائبة، بما فيها العودة، بإذن الله، والعود أحمد…