يستطيع القارئ البسيط للمشهد الحاصل في فلسطين أن يستشعر تغيّر ردة الفعل أو حتى طُرق التعاطي مع هذه القضية الشائكة , فهذه المرّة بظروفها و حيثياتها ليست ككل مرّة , و كأنّنا نحن العرب أدركنا بأنّ وسائل التواصل الاجتماعي ليست فقط تلك المساحة التي نُشارك بها يومياتنا و أخبارنا , صورنا و مشاكلنا , بل لوسائل التواصل القدرة الكبيرة على قلب موازين أعنف القوى و إرضاخها لرأي و صوت الأغلبية مهما كان صوتها في السابق خافتاً .
أصبحت قضية فلسطين و الظلم الواقع عليها و على أهلها معياراً أخلاقيا نسفَ كل التقييمات التي كان البعض يبنيها للأشخاص في السابق , فذلك رجل الدين الذي يُصدّر عن نفسه صورة العدل و الإحسان و الطيبة الذي لم يقف لنصرة القضية هو الآن تحت النّار و النقد , حتى تلك التي كان يُنظر اليها كمثال للقذارة أصبحها أسمها مسموعاً أكثر فقط لوقوفها مع الحق , حتى موازين الشرف و الطيبة كلها تعدّلت لتأتي بعد الوقوف مع القضية و نصرتها , فالشرف ليس فقط في عدد قطع الملابس التي نلبسها , ولا الإيمان بعدد ساعات الصلاة أو تحمّل الصيام , فالشرف و الإيمان الحقيقيان هما في الضمير المُستيقظ دائماً , الذي لا يُباع أو يُشترى ولا يُقايض عليه أيضاً.
في القضية الفلسطينية على وجه التحديد هنالك أوراقٌ خُلِطتْ عن غير قصد , و هنالك مسائلٌ تشعّبت كان يُستحسن أن توضع بها النقاط على الحروف , فإن أخذنا القضية من منظور ديني بحت سنجد بأن الكثير من اليهود يقفون ضد الإحتلال جنباً إلى جنب مع أصحاب الأرض الفلسطينيين , و هنا في هذه الأوقات يجب أن نكسب هذه الأصوات و نعي أهميتها لهدم هذا الكيان العنصري الفاشي من الداخل , فعندما نلعن اليهود نحن نخسر أصواتاً نشترك معها في الإنسانية التي تملي علينا الوقوف مع الحق الفلسطيني , و هنا يجب التفريق بين الصهيونية كحركة استعمارية قائمة على تأليب الشعور الديني و ربطه بالشعور القومي , و اليهود كبشرٍ عاديين نشترك معهم في الإيمان بالله تحت عباءة أبو الأنبياء إبراهيم.
قبل أن تتشكل الحركة الصهيونية التي شرعت في جمع اليهود من كل أنحاء العالم , كان عالمنا العربي يعجّ بالإختلاف الغني , الذي يعمّر ولا يهدم , ففي سوريا مثلا عاش اليهودي جنباً إلى جنبٍ مع المسيحي و المسلم , و عانوا جميعاً صعوبات الحياة و تحدّوا الظروف سوياً و تجاورا و تصادقوا , و التاريخ يعجّ بحكايا تجمعهم.
إذن لماذا علينا التفريق بين الحركة الصهيونية و الديانة اليهودية أو اليهود كبشر ؟
لأنّ هذا ما لا يُريده الاحتلال ليُبقي مخططاته الموجهة لليهود قائمة بلا أي معوّقات , فاليهودي المناصر للقضية الفلسطينيّة عندما يُشتم من منطلق ديني بحت , سوف يعيد حساباته و الجانب الذي يناصره و يقتنع شيئاً فشيئاً بمبادئ دولته التي تحاول إقناعه بأحادية حقها بالأرض و الشجر و الصخر .
لذلك من واجبنا كعرب ننادي بحقنا الأصيل في دولة مستقلة يعيش بها إخوتنا بكرامة أن نُفرّق و نتعلم فصل الأديان عن الحركات أو المُنظّمات المختلفة , تماماً كما نرفض إعطاء صبغة المسيحية لمن قتلوا الهنود الحُمر في أمريكا أو داعش و فصلها عن عمق الدين الإسلامي , لذلك علينا أن نعي بأنّ الحركة الصهيونية هي في الأصل تخالف لمبادئ الدين اليهودي و بأنّ العديد من اليهود في دولة الإحتلال هم ضد دولتهم و تمارس ضدهم شتى أنواع الضغوطات لثني إنسانيتهم عن الوقوف مع الحق , و ببحث سريع على شبكة الانترنت نستطيع بسهولة رؤية بعضهم حاملين ليافطات تناصر القضية و تلعن الإحتلال في داخل و عمق الاحتلال أو حتى في مختلف دول العالم .
عندما نُعيد ترتيب أوراقنا و نعي جيدا من معنا و أو علينا , نحن بذلك نواجه الإحتلال بالعِلم و الثقافة الذي يُفيدان أكثر من العاطفة التي قد تكون مبنية على نقص الحقائق , فهذا زمن الحقائق التي من أجلها تدفع القوى المظلمة أبهظ الأثمان لطمسها أو تحريفها .
فعلى سبيل المثال لا الحصر هنالك حركات يهودية عددية تُعادي الاحتلال كحركة ( ناطوري كارتا ) تعارض الصهيونية بكافة أشكالها و ترفض وجود الدولة العبرية , تعدادهم ما يقارب 5000 شخص و يتواجدون في القدس و نيويورك و لندن .
لذلك علينا أن نحافظ على هذه الأصوات و غيرها في صفنا و لا ننجر نحو العاطفة غير المسؤولة التي تخلط الصالح بالطالح .