بين عيد الفطر ٢٠٢٠ وعيد الفطر ٢٠٢١، مضت أيام عام كامل، انصرم بسرعة كبيرة نسبيًّا في حسابات الوقت، لكن أيامه لم تمرّ مرورًا عاديًّا أو طبيعيًّا، بالنظر إلى ما حملته من أحداث جسام، وخطوب عظيمة، ثقلت علينا فأدمت قلوبنا، وفاضت بسببها عيوننا.
لقد أذن الله بدخول أول أيام عيد الفطر الفائت ونحن نعيش ظروف حظر شامل حال بيننا وبين اللقاء بأهلنا وبأحبتنا وبأرحامنا، وأحييناه رغم قسوة الظرف، معظّمين شعائر الله جلّ وعلا، ظانّين وقتئذ أننا لن نعيش أقسى من ذلك الشعور بالقهر والألم، وسألناه تعالى أن يخلفنا عواقب ذلك خيرًا.
ويجيء عيد الفطر اليوم مؤذنًا بانفراج يسير على مستوى ساعات الحظر، يمنحنا بارقة أمل بقرب عودة الحياة إلى طبيعتها التي طالما تذمّرنا من تعبها وروتينها.
يجيء العيد اليوم بعد أن مرّت بنا أيام شهر رمضان المبارك ولياليه، وقد افتقدنا علامتها الفارقة: اجتماعات الأسر المتحابّة، ولقاء الأرحام الحميم؛ ومع ذلك واسينا أنفسنا بجعلها أيامًا حافلة بالعبادات، مزيّنة بالطاعات، لعلّها تطفئ بذلك نيران قلوب فُجعت قبل رمضان وخلال الشهر الفضيل كذلك بفقد أحبة وأعزاء، كانوا ينتظرونه معنا، ولم يُقدّر لهم أن يصوموا أيامه أو يقوموا لياليه، داعين المولى جل وعلا أن يرحمهم ويغفر لهم، ويجعل أيامهم وعيدهم في جنائن النعيم أحلى.
يااااااه! ما أعجب أمر الموت! وما أعظم حقيقة الموت! إنها الحقيقة الوحيدة في حياتنا، نعرف أنه مقبل لا محالة، لكننا نرفض قدومه، ونوقن أنه أقرب إلينا من حبل الوريد، لكننا نستبعده، وإذا جاءت سيرته أتبعناها فورًا بقولنا: يكفينا الشر، وهل الموت شر؟!
حين أبدع الشاعر أمل دُنقل قصيدته (ضد من؟)، وقف بنا على مفارقة عجيبة بين البياض الذي كان يراه في كل شيء حوله وهو راقد في غرفته بالمستشفى متذكرًا الكفن، وبين السواد الذي سيتّشح به المعزّون، وكأنه " لون النجاة من الموت، لون التميمة ضد الزمن"، ثم يقف بنا دنقل على حقيقة مدهشة؛ لأننا لا نعيها مع أننا نعيشها: "ومتى القلب في الخفقان اطمأن؟" مصدّقًا قول المعرّي قبله:
تعب كلها الحياة فما أعـــــــ// جب إلا من راغب في ازدياد
ضجعة الموت رقدة يستريح ال// جسم فيها، والعيش مثل السهاد
نعم، إننا نحزن على موتانا، نفتقدهم، نشتاقهم، تطغى الأنانية على مشاعرنا؛ لأننا نريدهم معنا، بجوارنا، يشاركوننا أفراحنا وأحزاننا، ناسين أو متناسين أن قلوبهم اطمأنت بإذن الله حين توقفت عن الخفقان، في دنيا لها من اسمها نصيب، يعمّها ظلم، ويعتريها عراك، تقلقها نزاعات، ويضيّعنا فيها لهو، وحين تلمع هذه الحقيقة في عقل دُنقل وهو يستقبل الأصدقاء المعزّين به قبل رحيله، محدّقا في عيونهم السوداء، تجده يقول: " وأرى في العيون العميقة/ لون الحقيقة/ لون تراب الوطن".
نعم، وألف نعم، إنه تراب الوطن... الأرض... الحقيقة الوحيدة الباقية بعد موتنا؛ فحين تنتهي حياتنا لا محالة، يكون هذا التراب ملاذنا الأخير، يغادرنا الأهل والأحبة فيضمّنا، يتركنا الجميع فنلوذ إليه، نواجه حقيقة الموت فنعود إليه، ونندمج فيه.
وحين يُذكر الوطن، وتُذكر الأرض، يحلو الكلام عن فلسطين؛ لأنها ليست أيّ وطن أو أيّ أرض، إنها وطن الأديان كافة، والأنبياء كافة، والأحباء كافة، إنها الأرض المباركة مكانًا، والخالدة زمانًا... فداها يطيب الموت، وترخص الأرواح، ولقدسها ولأقصاها ولجميع مدنها، وقراها، وجبالها، وسهولها وشطآنها؛ تنتفض الدنيا، وتعصف العواصف، ويعود الموت الذي ما كان ليفارقنا فيتصدّر المشهد؛ إذ لم نكد نفرح بانخفاض عدد الوفيات بكورونا، ونستبشر بِعيد يُعيد إلى الحياة بعض رونقها رغم الأسى والجراح؛ حتى تأكد لنا أن شهداءنا حين واجهوا كورونا - عدوّنا الخفيّ- ونحن نكاد نعدم أسلحة مواجهته ضعفًا بل عجزًا أمام قوة الخالق العظيم، كانوا يسيرون في درب شهدائنا الذي واجهوا عدوّنا الجليّ، وأبطالنا الذين ما زالوا يواجهونه، سائرين على درب الموت الشريف، وهم جميعًا يعرفون وبكل تأكيد أسلحة مواجهة عدوهم، وطرائق تدميره، يحملونها بكل قوة وصلابة، موقنين بالنصر، مردّدين قوله جلّ وعلا:" إن تنصروا الله ينصرْكم ويثبّتْ أقدامكم".
يُشار في معاجم اللغة إلى أن العيد هو اليوم الذي يُحتفل فيه بذكرى كريمة وحبيبة، وهو أيضًا ما يعود من هم أو مرض أو شوق أو نحوه، وبناء على ما تقدم، ليس لي إلا أن أقول مع المتنبي:
عيد بأيّ حال عدت يا عيد// بما مضى أم لأمر فيك تجديد؟!