"البتراء" طريق المعابد إلى مقام هارون (صور)
عبدالرحيم العرجان
15-05-2021 09:29 AM
في كل زيارة لعاصمة العرب الوردية نكتشف كل جديد من الحضارة وأصول الثقافة ومبادئ التجارة والموروث الكبير عبر الزمن، فهي المدينة التي تأسرك بالبحث بأمهات الكتب والحقيقة بالواقع.
اخترنا هذا المسار لزيارة المقام الذي يُعتقد أن نبي الله هارون بن عمران قد دُفن فيه بجبل هور، وعدد من المواقع والمعابد النبطية، وعيون أخيه موسى -عليهم السلام-على مدخل المدينة، والتي يؤمن البعض أنها العين المذكورة بالقرآن، وحدث عندها معجزة ضرب الصخر بالعصاة، ولغاية الآن ما زال كثير من الأهل يتزودوا من مائها كما قمنا نحن خلال رحلتنا، حيث تُوزع مياهها لري البساتين في تلك المنطقة، وتلعب دور رئيسي بالري لمدة عشر سنوات، وهناك استوقفنا مطل البلدة، حيث شاهدنا الهدف المنشود لهذه الزيارة الظاهرة كالدرة البيضاء من أعلى جبال الشراة.
انطلاقاً من البوابة الشمالية بأم صيحون، قطعنا التذاكر من مركز الزوار لنبدأ المسار بعد أن وضعنا خطة لزيارة المعالم والمواقع ذات الأهمية الكبرى بالرقيم، والتي أنجذب الباحثين إلى أسرارها، من أهل العلم، ومغرمي الاكتشاف والترحال، ورجال الدين.
كان مقرنا الأول مغر النصارى، والذي يقع قرب نهاية المظلم وبداية الطريق لجبل الخبثة، وهي مدافن وأضرحة متعددة الارتفاعات تصل إلى 20م مزينةً بزخارف وعلى إحداها رأس غورغونا الذي يشير للموت، وما يقابلها على التل، مجموعة من الواجهات المتكاملة منحوتة في جزء فريد لسحر الجيولوجيا بالمدينة؛ من بيوت، ومعابد، بما فيها من مساطب، ونظام مائي من البرك والأحواض وجرون والطرق وأدراج قد تخللتها من كل لون ولون، ومنها واجهات لم يكمل النحاتين إنجازها، والأخرى لها أروقة ومساحات ما زال معظمها مدفون تحت الركام حيث موجودة بمكان لا ترغب أن تتركه لتفرد جمال ما فيه.
عبرنا الجسر الحديدي المستحدث على وادي المطاحة إلى جانب الجسر النبطي القديم، حيث ظهر من خلاله أطلال قواعد حجرية، وصولا للكنيسة البيزنطية وأرضيتها الفسيفسائية ضمن ثلاثة أروقة، ومجمع معمودية ومحاريب رئيسية موثقة كسجل النباتات والحيوانات، التي كانت تعيش بالجوار، وآلهة الأرض والبحر والفصول الأربعة وينسب بنائها للقرن الخامس ميلادي أي بعد غزو المملكة العربية وسقوطها، حيث أقيم عليها مظلة معدنية مفتوحة لحمايتها من التقلبات الجوية، وكشفت التنقيبات فيها عن وجود أرشيف يوناني بالغ الأهمية من مائة وأربعين بردية مدونة لبعض الأمور الحياتية بذلك الوقت.
وبالمجاور منها، سترى كنيسة الزرقاء؛ حيث سميت بذلك نسبة للون أعمدتها الجرانيتية المستخدمة بالبناء وتفرد زرقة خامتها عن المدينة، واعتلاها تيجان نبطية وهذا يشير إلى أن البناء من مصدرين معمارين مختلفين سواء بالمواد أو التصميم، والتي بالقرب منها إحدى أهم المعابد النبطية وهو "الأسود المجنحة" المشيد بعصر الملك الحارث الرابع والذي توجت أعمدته بأسود مجنحة وآخريّن متقابليّن على مدخله.
يُعتقد أنه كان مخصص لآلهة إيزيس وأوزوريس وهذا إشارة لما تأثروا به من ثقافة وحضارات محيطة، ويتوسط قاعته بمنصة كالموجودة بقصر البنت المقابل له ولكن أصغر مساحة بأرضية رخامية بيضاء عاكساً مدى رخائهم وذوقهم الرفيع واهتمامهم بأدق التفاصيل.
ثم اتجهنا لشارع الأعمدة نحو المعبد الكبير وهو أكبر المعابد النبطية وأهمها، وقد قمنا بجولة بساحته الرئيسية المبلطة بأشكالٍ هندسية، ثم صعوداً منها لرواق قدس الأقداس بين أعمدة ضخمة قد انتصبت لعشرة أمتار وسط مشهد بانورامي مهيب للواجهات الملكية والذنيب والتركمانية والحبيس وجبل أم البيارة.
وبعد هذه الجولة الاستكشافية كانت استراحتنا خلف المعبد بجانب عامود فرعون -كما يسميه العامة-وهي بداية الطريق لغايتنا على الجبل، سالكين درب مصر التجاري الممهد حينما كانت تسلكه قوافل شمال إفريقيا مروراً بالنقب وسيناء وميناء إيلا، ولتأمينها تحتاج لبسط نفوذ وسيطرة قوة دولة أجدادنا حتى أنه دليل وجودنا في صحراء مصر الشرقية وساحلها الشمالي حتى وادي الحمامات هو زخرفة نقوش وكتابات عربية نبيطية، فهذه الطريق لم تكن فقط تنقل سلع وبضائع بل ثقافات ورسل حكام وقادة وأميرات ومن عليها الآن بغية السياحة والاستجمام.
شدتنا الواجهات أسفل جبل أم البيارة بما احتوته من تنوع فمنها ما كان منحوت بكبد الجبل أو استقل ليكون منفرد بذاته، ومن هناك سلكنا وادي خروبة وابن جريم بطريق متعدد المشاهدات مروراً بقبر الحية الجاثمة فوق مكعب، بوحدة صخرية واحدة ترمق المارة بنظرها كأنها تحمي المدفن الذي بجانبها أو تحرس بداية الطريق لمدخل العاصمة.
وبعد تجاوزنا لجبل البرة وبه واجهة امتازت بفتحات ضيقة تشابه مرامي السهام، لنصل بطريقنا نحو وادي وغيط السهل وفيه كتابات ونقوش تمثل كبير الآلهة، لتتفرع بدرب متعرج صعوداً نحو السفح لجبل "هور" والمستحدث منه جبل هارون، وعنده أخذنا طريق ضيق بدراجات نحو مقام نبي الله المنعزل بعمارته المملوكية فوق بناء قديم وكتب على مدخله "لا إله إلا الله ومحمد رسول الله، وقد أمر بإنشاء هذا المقام المبارك مولانا السلطان الملك الناصر المجاهد المرابط..."، وفيه دفن نبي الله كما يعتقد بقبر وشح بالقماش الأخضر حسب العرف المعهود للأولياء والصالحين.
وجرت العادة لأهالي المنطقة لعهد قريب بالصعود لزيارته بشهر أيلول من كل عام للإيفاء بنذورهم للتقرب والدعاء بغية الشفاء، وطلب الرزق وغيره من زواج وإنجاب وإصلاح حال، بإقامة تستمر لثلاثة أيام والتي يعلن عنها قبل أسبوع من موعدها للاستعداد لهذا الحدث الذي يتخلله سمر وتحدي فروسية السباق للشتاء وحراثة الأرض. يبدو أن المستشرق بوركهارت تخلف عن قافلته بغية زيارته بعد أن أقنع دليله بغية تقديم أضحيته عند المقام للتقرب والزيارة فلم يستطيع رفض طلبه خشية من النبي ليشيء القدر بعدم إتمام مبتغاه، وأكد اسمه "هور" المستشرق كراوفورد 1837م بمذكراته.
وقد حفر خزان ماء ضخم بأقواس وحنيات في أسفله عند قلب الجبل لتزويد الزائرين، ولا يمكنك أن ترى من معالم المدينة الغائبة بين الجبال سوى النصف العلوي للدير والأفق المفتوح للغرب والنقب المتعرج الموصل إليه من على سطح المقام بجانب قبته المطلية بالشيد الأبيض، وبالقرب من مجمع كنسي بيزنطي عرف بمار هارون أوردة الحاج ثيتمار 1217م بمذكرات رحلته للحج المسيحي وبقي عامل حتى العصور الإسلامية.
لنعود بدربنا نحو قلب المدينة والخروج من السيق المدخل الرئيسي نحو مركز الزوار بعد قطع مسافة 25كم بمستوى متوسط الصعوبة، والذي تحتاج فيه إلى أربعة لترات ماء وعصائر، والمبيت بمخيمنا بالبيضا وعشاء محلي "ثريد" وهو طبق البادية القديم المكون من خبز قمح التنور والمقطع والمشبع بمرق لحم الضان المطبوخ مع البطاطا والبصل بدهنه وعظمه.