يقطع ساري حنفي، رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع وأستاذ الاجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت، خطواتٍ أخرى في مساره البحثي، المدروس بعناية فائقة، في دراسة "مجتمع المعرفة" في العالم العربي، والتركيز على العلاقة بين البحث العلمي والمشكلات السياسية والمجتمعية والثقافية، بعد أن قدّم مساهمات مهمة سابقة في هذا المجال. في كتابه الجديد "علوم الشرع والعلوم الاجتماعية: نحو تجاوز القطيعة .. أليس الصبح بقريب" (مركز نهوض للدراسات والنشر، بيروت، 2021)، يلج حنفي إلى موضوع على درجة عالية من الأهمية والتشويق، عندما يراجع الكتب والمقرّرات والمناهج التي تدرّس في كليات الشريعة في ثماني دول، سبع منها عربية (الأردن، لبنان، سورية، المغرب، الجزائر، قطر، الكويت) بالإضافة إلى تجربة الجامعة الإسلامية في ماليزيا.
الكتاب بمثابة مشروع بحثي كبير، بدأ فيه المؤلف منذ قرابة خمسة أعوام، وأجرى مقابلاتٍ عديدة، وقاد فريقاً بحثياً في الدول المذكورة، ليطرح أسئلة مهمة ورئيسية، أبرزها عن الأهداف والمواصفات التي تضعها كليات الشريعة في العالم العربي من بناء قدرات ومهارات لدى خريجيها، ما هي صفات الخريّج، وما هي المؤهلات التي من المفترض أن يتوافر عليها؟ هل تهدف إلى التمكين فقط من خلال علوم الفقه والعقيدة والدراسات الإسلامية بعيداً عن إدراك الواقع ومقتضياته وشروطه، أم أنّها تسعى فعلاً إلى بناء شخصية "المؤمن" في إطار إنساني شامل؟
قرّر ساري حنفي الدخول من باب كليات الشريعة نفسها، ليحلّل ويشرّح المناهج والأفكار والمساقات والفلسفات التي تقف وراء وضع المقرّرات وأساليب التدريس
لم يأتِ السؤال السابق من فراغ، بل من فلسفة مهمة وجوهرية، تقوم على أنّ القطيعة الحادثة، في أحيان كثيرة، بين العلوم الدينية والاجتماعية، أتت، وما تزال، بنتائج سلبية وكارثية على المجتمعات والأمم العربية والمسلمة، لأنّها تمثل رافداً لحالة الاستقطاب الموجودة في العالمين، العربي والإسلامي، والتنافر بين التيارات الإسلامية والعلمانية بألوانها المختلفة، بين الواقع والتاريخ والأصالة والمعاصرة، وهكذا..
وإذا كان (وهذه الإضافة من عندي) عديد من كبار المثقفين والمفكرين العرب والمسلمين حاولوا سابقاً الاشتباك مع إشكالية الأصالة والمعاصرة، التراث والواقع، فإنّهم دخلوا من مداخل فكرية على الأغلب، وبالتالي حاولوا تقديم وصفات مهمة، لكنها خارج إطار معمل الشريعة والفقه الذي ينتج المعرفة الدينية والمجتمع الهائل والكبير الذي يحتضنها، بينما صاحبنا (ساري حنفي) قرّر الدخول من باب آخر، من كليات الشريعة نفسها، ليحلّل ويشرّح المناهج والأفكار والمساقات والفلسفات التي تقف وراء وضع المقرّرات وأساليب التدريس، ويتساءل فيما إذا كانت هذه الكليات بالفعل تساهم في ردم الفجوة أو القطيعة بين العلوم الشرعية والاجتماعية أم العكس تماماً.
قصة الكتاب التي ذكرها المؤلف تمثّل قيمة إضافية مهمة بذاتها، وقد ولج من خلال تجربته الشخصية وتطوّره الروحي والفكري والمعرفي
لا أريد أن أصادر على النتائج المهمة في الكتاب، وأتركها للقارئ ليستمتع بتلك الرحلة المهمة في كليات الشريعة ومناهجها ومجتمع كليات الشريعة في العالم العربي، مع لغة جميلة سلسة. لكن الإشارة التي قدّمها حنفي في تبريره هذا الكتاب مهمة للغاية؛ وتتمثّل في أنّ الشريعة الإسلامية ليست مقرّرات ومتونا وكتبا منفصلة عن الواقع والسياقات التاريخية وفهم تحولات المجتمع، فالفقه بما هو "حكم شرعي" بحدّ ذاته "فرع عن التصوّر العام للموضوع"، ما يعني أنّ العلوم الاجتماعية والإنسانية مهمة جداً في بناء قدرات طلاب الشريعة المعرفية والبحثية، فضلاً عن تحقيق الغايات والمقاصد التي جاءت الشريعة الإسلامية لتحقيقها.
هنا يناقش حنفي أهمية فروع من علوم الشريعة تساعد تماماً على تجسير تلك الفجوة (بين علوم الشرع وعلوم الاجتماع) كعلم الأخلاق، بأبعاده الإنسانية والحضارية، ومقاصد الشريعة الإسلامية وغاياتها.
في ظني، أنّ قصة الكتاب التي ذكرها المؤلف تمثّل قيمة إضافية مهمة بذاتها، وقد ولج من خلال تجربته الشخصية وتطوّره الروحي والفكري والمعرفي، بداية من طفولته في مخيم اليرموك في دمشق، وتعرّفه على خطاب أبرز العلماء والمشايخ في الشام (كمؤسس التيار السلفي محمد ناصر الدين الألباني، وأحد أبرز علماء الأشعرية المعاصرين، محمد سعيد رمضان البوطي)، ثم انتقاله إلى الفكر بروافده المختلفة والمتنوعة، للمفكرين العرب المعروفين، ومزاوجته بين تعرّفه على مجتمع التيارات الإسلامية والمجتمعات العلمانية الفكرية الأخرى، بخاصة اليسارية، مروراً بتجربة اليسار الإسلامي، وكتابات حسن حنفي المعروفة ومحاولاته في "تثوير التراث"، وصولاً إلى جلسات الحوار الفكرية والسياسية في دمشق، وعلاقته بأحد المثقفين المتميزين الملتزمين، جودت سعيد، صاحب مذهب ابن آدم الأول، ومنظّر مدرسة اللاعنف في الفكر الإسلامي، ومريد المفكر الجزائري مالك بن نبي.
تواصل حنفي مع روح ابن عاشور محاولاً تقديم إضافة معرفية قيمة، ومستسمحاً له بإعادة طرح العنوان نفسه، وما ذلك إلا انطلاقاً من الهواجس المعرفية والبحثية
هي رحلة شخصية غنية وثرية في وسط تضاريس التيارات الفكرية المتنوعة والمتعدّدة في العالم العربي، ما يعطي المسافر فيها خبرة علمية وعملية مميزة، ويصقل قدرته على المقارنة والنقد والارتقاء فوق الاختلافات الفكرية والمعرفية. والجميل في هذه الرحلة أنّها تحاكي قصة أجيال عربية ممن كانت، وما تزال، تبحث عن هويتها الفكرية أو عن طريقٍ يسير بنا نحو المستقبل. وليست مصادفة، إذن، أن الصديق العزيز ساري حنفي بدأ من سؤال الأمير شكيب أرسلان رحلته الفكرية "لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟"، وافتتح كتابه، بل عنونه، بكتاب أحد أبرز العلماء المستنيرين في التاريخ الحديث، محمد الطاهر بن عاشور، الذي كتبه قبل أكثر من قرن بعنوان "أليس الصبح بقريب؟" يتناول فيه موضوع الإصلاح الديني في المعاهد والكليات الشرعية.
وقد تواصل حنفي، بعد هذا الزمن الطويل، مع روح ابن عاشور محاولاً تقديم إضافة معرفية قيمة، ومستسمحاً له بإعادة طرح العنوان نفسه "اليس الصبح بقريب؟"، وما ذلك إلا انطلاقاً من الهواجس المعرفية والبحثية، التي انطلق منها حنفي، وتتمثّل في أنّ تجاوز تلك القطيعة بين علوم الشريعة وعلوم الاجتماع من الممكن أن يكون حلاً مهماً ومفتاحاً ذهبياً للخروج من حالة الاستقطاب الأيديولوجي/ أو الانفصام المجتمعي بين الدين والواقع، بين الشرع وعلوم الاجتماع، وهي القضية التي يستأنف فيها حنفي جهود مدرسة الإصلاح الأولى التي كان أحد أبرز روادها الإمام الشيخ محمد عبده.
العربي الجديد