لقد أثبتت الأحداث الأخيرة في القدس، أن أكبر أزمة تواجهها إسرائيل، هي وجود الفلسطينيين في فلسطين، وبرغم كل المحاولات، لتفتيت هذا الوجود الى مجموعات، الا انه بقي صلبا.
الذي شهدناه في القدس، يثبت ان السوار الشعبي، هو الذي يحمي المسجد الأقصى، أولا وأخيرا، وليس أدل على ذلك من هذا التحشيد في القدس، ليلة القدر، وقبلها، في وجه الاحتلال، سواء من أجل حي الشيخ جراح، او من اجل الدفاع عن المسجد الأقصى، في وجه المؤامرة.
لكن الاحتلال لا يتعب ببساطة، وسنرى كيف سيحاول الاحتلال عبر المتطرفين رد الصاع صاعين، من خلال مسيرات المتطرفين اليوم الاثنين في القدس، وهي مسيرات ستؤدي الى إغلاق أحياء وطرقات في القدس، وهي إجراءات بدأت أساسا منذ ليلة الاحد السابع والعشرين من رمضان، وقد يكون اليوم، يوماً دموياً في المدينة، مما يجعل الوضع ليس سهلا.
لقد رفع المقدسيون، والفلسطينيون، داخل فلسطين، معنويات كل العرب، بلا استثناء، امام المشهد، وكراهية إسرائيل تشتد في العالم العربي، ليس بسبب مس كل ما هو مقدس، وحسب، بل بسبب وجود الاحتلال ذاته، الذي يجدد كل فترة موجات الكراهية بحقه، بما يعبر عن رفض أصيل، لوجود إسرائيل في المنطقة، ويعزلها، برغم كل محاولات تجميل الاحتلال.
لكن الركون إلى مبدأ الحرب بالوكالة، خطير جدا، أي ترك المقدسيين في هذه الازمة، فرادى، باعتبارهم يدافعون عن المسجد الأقصى، الذي يعد رمزا لكل المسلمين، وهذا التمجيد للمقدسيين، في معركتهم، خلفه فخ خطير، اذ يجب ان لا يؤدي في الوقت ذاته الى اخلاء مسؤولية كل العرب، والمسلمين، امام هذه الازمة، فهي مسؤولية الكل، خصوصا، حين نلمح غيابا سياسيا رسميا، وضعفا في التعبيرات امام العالم، على مستوى النظام الرسمي العربي، وكأنه نظام من منطقة ثانية تماما، يتفرج على مدينة محتلة، ويعتبر الدفاع عنها، شأن من فيها.
من المفارقة أن اجتماع وزراء الخارجية العرب، يأتي متأخرا بعد أسابيع من المواجهات في القدس، وهو اجتماع لا ينتظره المقدسيون، ولا يؤثر أساسا في الوضع في القدس، كما أن نفاق الأوروبيين، والأميركيين، ودول العالم، وصمتهم امام وضع مثل هذا الوضع، له آثار سلبية جدا، على نظرة من يعيشون في الشرق الأوسط، الى العالم، بما يوسع الفجوة القائمة أساسا.
حاولت إسرائيل بكل الطرق تفتيت الفلسطينيين، واضعافهم، عبر تقسيمهم الى كتل، كتلة تم تجنيسها بجوازات إسرائيلية، في فلسطين المحتلة العام 48، فاذا بها تتحدى وتزحف نحو القدس، ولا تتنازل عنها، وكتلة تم حشرها في غزة، وتجويعها ومحاربتها، وإذ بها تقاوم إسرائيل بكل الطرق، وتهدد مستوطنات الشمال الفلسطيني، وكتلة تم حشرها تحت مظلة سلطة أوسلو في الضفة الغربية، وهي كتلة معادية لإسرائيل، مهما حاولت السلطة تهذيبها على مقاسات التنسيق الأمني، وكتلة في القدس، تم الضغط عليها، اقتصاديا، او تخويفها بسحب بطاقات الإقامة، او هدم البيوت، او الترحيل خارج القدس، لكنها لم تتراجع، وقد ثبت ان مبدأ الكتل الموزعة، وهو مبدأ إسرائيلي، يستهدف توزيع حمل الإدارة الأمنية بطرق مختلفة، مبدأ وهمي، يسقط دوما، عند الازمات الكبرى، ويثبت أن هناك شعبا واحدا، بروح واحدة.
الاستفراد بالقدس، والمسجد الأقصى، ليس بهذه السهولة، حتى لو كان السلاح متوفرا لدى الاحتلال، وغائبا عن أغلب الفلسطينيين، لأن الملايين الذين على ارضهم، لا يمكن اليوم، ترحيلهم، ولا طردهم، ولا اخضاعهم، ولا تحويلهم الى مجرد شغيلة في مستوطنات الاحتلال.
قد تتمكن إسرائيل من تحييد النظام الرسمي العربي، ومهادنته، لكن الذي ثبت أن الكلمة الأولى والأخيرة، هي للسوار الشعبي، داخل فلسطين، وهو سوار أبرق برسائل خطيرة جدا خلال الأيام الماضية، برغم مرور كل هذه السنين، خصوصا، في قضية مثل القدس بكل حساسيتها، ومع السوار الشعبي الفلسطيني، الانسان العربي، في كل مكان، وهو إنسان معاد لإسرائيل، ولا يقبلها، وقد استطاعت إسرائيل، دائما، ان تجدد العداء لها بين العرب، بسبب سياساتها.
ان ما رأيناه هذه المرة، اكبر من انتفاضة فلسطينية، بالمعنى التقليدي، ويقول لإسرائيل ان مشروعها غير المستقر، يواجه أسباب نهايته، من داخل فلسطين، ومن خارجها أيضا.
(الغد)