facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss




من وحي المئوية (13) عندما يموت الشقيق


د. جواد العناني
09-05-2021 01:02 AM

انتقل الى رحمة الله الاسبوع الماضي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن طلال عن عمر يناهز ال 81 عاماً. وقد فتحت وفاته رحمه الله باب الذكريات عندي وتذكرت معنى خسارة الشقيق.

لما صرنا ستة أبناء لوالدي، كنّا كلنا ندرس في الكلية العلمية الاسلامية. ومدير المدرسة حينها كان المرحوم أنور الحناوي الذي تمتع بشخصية قويةً رغم عائقة «الخنب». وقد كان مثالياً في خُلقه، وهندامه، وأحذيته التي «تزاقي» كلما سار في ردهات المدرسة. أنا وأخي الأصغر مني علي، ومن بعده عزام، ومن بعده بسام، ومن بعده عبدالرحمن، ومن ثم أتت أختنا الأولى نهيل، في بيتنا بجبل عمان، كنّا نجلس كل يوم لمدة ساعتين أو أكثر ندرس دروسنا جالسين على » بنك» أو كرسي طويل مثل كراسي المتنزهات، وطاولة ممتدة تسعنا جميعاً. كان المطلوب من كل أخ أكبر أن يدرّس شقيقه الأصغر، وهلم جرا. وكم من مرّة، اكتشفنا أن الأخ الأصغر قد يفوق الأخ الأكبر في موضوع ما.

وأساتذة الكلية كانوا ممتازين متفانين في تعليمنا، ومن هؤلاء الأستاذ نورالدين الجعبري، وسليمان جرّار، ولطفي ملحس، ومحمد خالد أبو رياله، وغيرهم. ولما أنهيت مرحلة الإعدادية، وانتقلت إلى الصف الأول الثانوي (العاشر بلغة هذه الأيام)، صار أساتذتي ممدوح السخن (كيمياء وأحياء)، محمد أبو غريبة (فيزياء)، عبدالعزيز الخياط (دين وتاريخ)، يوسف العظم (عربي)، ووالدي أحمد العناني (لغة انجليزية وتاريخ أوروبا)، وعبدالملك عرفات (أستاذ الرياضيات).

وقد برع أخي عزام في التمثيل والتقليد وكتابة الشعر. ويوم أفتتح مسرح الكلية العلمية الاسلامية، تحت رعاية الراحل الحسين عام 1962، قُدِّمت مسرحية غزوة بدر من تأليف المدير المالي الاستاذ زهير كحاله وإخراجه. وقد أعطي عزام دورين في المسرحية. واحداً من زعماء قريش الكفار، ودوراً ثانياً هو إبليس. ومع أنني كنت أيامها قد غادرت الأردن للدراسة في الولايات المتحدة، ولَم أحضر المسرحية، إلا أن والدي أرسل لي صوراً لعزام وهو على المسرح، ومنها صورة له بمكياج ابليس واقفاً مع الراحل الملك الحسين بن طلال وهو يضحك، وقد أثنى على أداء عزام.

ولما اجتمعنا أنا وعلي وعزام في القاهرة، درس علي الكيمياء في جامعة القاهرة، وعزام الهندسة في جامعة عين شمس، أما أنا فقد تركت الولايات المتحدة لأنني حولت من الهندسة إلى الاقتصاد، وألح علي والدي أن أعود لأكمل دراستي في الجامعة الأمريكية بالقاهرة مع أخَويّ. ووجدنا شقة في وسط البلد (قرب ميدان طلعت حرب)، وسكنا ثلاثتنا فيها. ولما قامت حرب عام 1967 كنت بالقاهرة لأحضر حفل التخرج، وعلي كان في سنته الأخيرة، أما عزام فكان أمامه سنتان قبل التخرج، ولما اندلعت الحرب، وسمعنا أحمد سعيد يبشر السمك بأن يتجوّع طلب من كل السكان أن يعتموا البيوت، ويغطوا الشبابيك بالورق الأسود لتعتيم المدينة.

وأثناء العتمة، لم نجد ما نفعله إلا تأليف قصائد شعرية، فيقول واحد بيتاً من الشعر من تأليفه ويتبعه الثاني ببيت مكمل على نفس الوزن والقافية، والثالث يأتي بيت ثالث، وهلم جرا. وفجأة دبت صفارات الانذار تحذر من غارة جوية. فالتزمنا الصمت.

ثم عادت الصفارات لتدوي معلنة انتهاء الغارة. فعدنا ونحن شاعرون بالقلق لنبدأ قصيدة جديدة، وكان الدور على عزام ليبدأ قصيدة جديدة. فقال البيت التالي:

ليتني كنت عندها يوم منع التجول

فصمتنا كلنا، ثم انفجرنا ضاحكين. قلنا هذا البيت قصيدة كاملة متكاملة، وانتهينا بعد نقاش أن نترك لكل واحد فينا خياله ليكملها شعراً أو أوهاماً، ولكن لن نفسد تلك الخيالات بيت جديد.

ويوم التاسع من حزيران (يونيو)، ألقى الرئيس جمال عبدالناصر خطابه الشهير الذي أعلن فيه الهزيمة، وتحمل مسؤوليتها، وقرر أن يتنحى عن الرئاسة. وكنا نستمع ثلاثتنا إلى الخطاب، ولَم يكد ينتهي حتى قام عزام وقال هيا ننزل، وبعد نقاش نزلت معه إلى الشوارع بإتجاه السيدة زينب حيث يوجد مبنى مجلس الشعب المصري. وهرع الناس إلى الشوارع، وهم يهتفون » ناصر... ناصر». وفجأة أطلقت صفارات الانذار تحذر من هجوم إسرائيلي جوي. ورأى الناس أن بعض شبابيك العمارات المرتفعة مضاءة ما تزال أضواؤها منارة. فصاح الناس » طفي النور... طفي النور» في الوقت الذي دخل حشد من الناس من شارع فرعي يهتفون «ناصر.. ناصر». واختلط صياح طالبي إطفاء الأنوار مع الهاتفين للرئيس فبدأ المشهد مضحكاً مبكياً «طفي النور» ويرد الآخرون «ناصر.. ناصر»، «طفي النور» «ناصر».

وكنت في هذا الظرف الحزين ووسط الحشود أتحاشى أن تلتقي عيناي بعيني عزام، لأننا كنّا سندرك المشهد » التراجيكوميدي» فنصحك بصوت عال حتى البكاء، وينقض علينا الغاضبون.

وكان أول لقاء لنا نحن الأخوة الثلاث الكبار في القاهرة في خريف عام 1964، ونزلنا في البداية لمدة أربعة أشهر في شقة مفروشة مع زميل لنا من الكلية العلمية الاسلامية اسمه عبدالمالك محمود العمري. وقد لاحظت أنه كلما غادرنا صباحاً إلى الجامعة لنأخذ اتوبيس (50)، أرى جمعاً من البنات على البلكونات. ولما كنّا نرجع مساءً، تغيب البنات عن البلكونات ان لم يكن عزام قد وصل. وان التقين به كن يصحن «عزام ... عزام» الكل عرفه وأحبه، وقد ألف الحديث باللهجة المصرية حتى المصريون لم يشكوا أنه مصري. ولقد كان طويلاً (حوالي 180سم)، وعيناه خضراوان واسعتان، وقوامه ممشوق، وقد ولد رحمه الله في القدس وثلاثة من أصابع يده اليسرى ملتصقة ببعضها البعض وكأنها رجل بطة أو أوزة، واثنان من أصابع يده اليمنى. وقد ورث هذا من جدي، والد أبي، والذي كان خطاطاً بارعاً.

ورفض عزام كل محاولات فك أصابعه عن بعضها البعض، وقد استغل هذا الأمر ليضحك الأطفال أولاد الجيران في العمارة. وكان يأخذهم إلى احدى حدائق الأطفال ليلعبوا. وفِي يوم، صعد فيه عزام إلى الدور الرابع، أصيب بنزيف دم حاد عند الطابق الأول. ورأته احدى الجارات، فأدخلته إلى بيتها لتساعده في إيقاف الدم النازف من أنفه. وقدمت له الشاي حتى استعاد طاقته. وقد كانت هذه السيدة من عائلات مصر تركية الأصل وزوجها فلاح ملاك كبير للأرض، ولكنه مات وصودرت أراضيه بعد ثورة الإصلاح الزراعي. وبَقى له مئتان وخمسون فداناً من أصل خمسة آلاف، وكان لديها بنت في الخامسة عشرة، وابن اسمه محمد أصغر منها. وبعد تلك الحادثة، أحب عزام بنت الجيران وقد حصلت على أعلى علامة بعد سنتين في امتحان التوجيهي، وأصرت على أن تدرس الهندسة معه في جامعة عين شمس. ولكن عزام على ما يبدو كان مثل الشاعر عبدالله بن قيس الرقيات. وكل فتاة يحبها يسميها رقية. ولما يئست منه، تزوجت بغيره، ولكنه على ما يبدو ظل يحبها. ويكتب لها الشعر. وقد تعثر في السنة الإعدادي. ولكنه تخرج في نهاية الأمر بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف مهندساً مدنياً.

وفِي عام 1970، حصل عزام على وظيفة مع شركة لعبد المحسن قطان اسمها » سوليكو»، أو الشركة السعودية اللبنانية، والتي كانت تبني مستشفى الملك فيصل في الرياض. وقد عُين عزام من البداية مهندساً مشرفاً. وقد زار الملك فيصل بن عبدالعزيز، والذي اهتم بالمشروع، الموقع أكثر من مرة، وتحدث إلى عزام، وجرى الود بينهما. ولما وقعت أحداث عام 1970، كان أخي الرابع بسام الذي أنهى التوجيهي – الثالث على المملكة عام 1967- يدرس في الجامعة الأمريكية ببيروت. ونزل عزام وبسام إلى عمان. وأخرجا أبي وأمي وأخي أنس وأختي نادية الصغرى (سابع وثامن الإخوة) من البيت على الدوار الثاني حيث كان يقع في ممر الرصاص القادم من شرق عمان نحو الغرب، ومن الغرب نحو الشرق. وبعد يومين وصلوا جميعاً إلى بيروت. وقد كنت أيامها قد أنهيت دراسة الماجستير في جامعة فاندريلت بولاية تينيسي الأمريكية.

وفِي نهاية عام 1973، سافرت إلى الولايات المتحدة لأحصل على الدكتوراة مع زوجتي نوره وابنتي ديمه ذات الأربعة أشهر. أما والدي فكان قد التحق بالعمل بالديوان الأميري في قطر واستقر هناك، ومعه أنس ونادية. ولما عدت من الدكتوراه في نهاية شهر تموز عام 1975، قررنا أن نلتقي كلنا عند الوالد والوالدة في الدوحة.

وبعد سنوات من العمل أُصيب عزام بعد ذلك بسرطان في الدماغ، وهو في سن الثامنة والأربعين. وأُجريت له عملية دماغ في عمان، وعولج بالأشعة، وذهب إلى » مايو كلينيك» واتصل بي الطبيب الأمريكي ليقول لي » أنها معجزة أن أخاك يرى، ويسمع ويتذكر، ويتحدث». لقد أكل السرطان معظم دماغه، وعاد إلى عمان وبدأ يفقد بصره حتى راح بالكامل. وتضرج جسمه بالجروح بسبب نومه المستمر على الفراش وأخذه » للكورتيزون». ولما كان يقال له أن والدتي قد حضرت لزيارته يسأل أولاده » ما لون ملابسها؟»، وعندما تصل إليه يدعي انه يراها ويقول » يا سلام يا حجة هالأزرق شو حلو عليكي».

أبي المتألم بصمت كان ينظر إليه وعيناه دامعتان. ولَم يجلب لوالدي الضحك والسعادة أكثر من عزام. وكنت أشعر بالثقب الكبير في قلبه وهو يتنهد رياحاً عاصفة. لقد شفّه الألم شعوراً بالذنب أن ابنه الحبيب قد يموت قبله، وكان حاله يقول » لماذا لم أكن أنا... فقد أمضيت من العمر عتياً.

وجاءتني رحلة للسفر إلى بلجيكا للتفاوض عام 1994، مع سكرتارية الاتحاد الأوروبي فذهبت إلى عزام لزيارته. لقد كان كلانا يعلم أن هذا اللقاء الأخير بيننا. وتحدثنا لمدة ثلاث ساعات، استذكرنا الشعر، وأفلام السينما، والذكريات، وأغاني أم كلثوم. ولَم يغب عن ذهنه شيء. فقلت سبحان الله.

وربتّ على كتفه، وربت على كتفي، وتعانقنا بقوة، وخرجت أبكي. وفِي اليوم الثاني. وبينما أنا في اجتماع في بروكسل، أطل علي السفير خالد مدادحة مومئاً برأسه. فعرفت أن عزام قد مات. لم أحضر الدفن، ولكن قيل لي أن والدي هو الذي أصر على الصلاة عليه. ومات والدي عام 2005، وخيال عزام لا يفارقه.

في زمن الكورونا فقدنا كثيراً من الأحبة، وأينا لم يفقد أحداً في منزلة الشقيق أو شقيقاً فعلياً وكلنا في قلبه ثقب كبير بسبب هذا كله.

الرأي





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :