مسار البتراء - البيضا .. والخروج من المظلم (صور)
عبدالرحيم العرجان
08-05-2021 11:00 AM
ضمن مرحلة من درب الأردن، بالمثلث الذهبي والجزء الأجمل منه "ضانا البتراء" وبين جبال كانت بساتينها للتين والعنب، وأرضها ملتقى قوافل العرب والعجم، كان مسارنا لدخول الرقيم والخروج منها بدرب غير معتاد إلا لمن تعلق بها وعرف أسرارها عن ظهر قلب حتى لو سار وحده، فهي أرض السلام كما هم شعبها الأوائل لغاية اليوم.
ما أن فرغنا من إفطارنا الباكر بالمخيم المحلي حتى اتجهنا للبتراء الصغيرة نحو سيق أم العلدا، الواقع شمال أم صيحون، مروراً بصخرة الفيل كما يسميها الناس، وما شابه المسلات المصرية النافر نحتها بالصخر الوردي والعديد من المصاطب بما عليها من نقوش ورموز تعددت النظريات بتفسيرها في محيط كان يوماً ملتقى لقوافل الجزيرة برحلة الشتاء والصيف وحرير الصين وبخور الهند وبضائع الشام وأرض الكنانة وموانيء المتوسط وصدح بها لسان فطاحل الشعراء بأجمل القصائد، حول مدرجات البساتين بما لذ وظهر بفسيفاء المدينة وتوريقاتها بعد أن جف وزال وخربته عوامل الزمان وكيد الطامعين الغزاة.
دخلنا السيق الضيق "البارد" المفضي لضاحية المدينة الراقية ذو العمارات الرائعة والزخرفة المضافة، من قبل تجار ومعابد آلهة ومنازل لعلية القوم ونخبتهم، وحمامات حارة وغيرها من دور حكم على جنبات ممر صخري ظليل موازياً لاتجاه تيار الهواء بين صفي جبال طوقت بأدراج تفضي لمكان لم نتسلقه احتراماً لتعليمات السياحة وأعراف المسارات للمحافظة على المكان، في حين تفرد إحدى بيوتها بنوادر الفن النبطي لرسومات ملونة لبنيش على السقف و وكيوبيد حاملاً قوسة وآخر بيده طير ويعزف الناي، ومجموعة من التوريقات النباتية مستمدة بما كان، وهناك فريسكو مشابه بوادي السيغ المتخلل لقلب المدينة والشبيه لما وجد في بوبيي الإيطالية دالاً على مدى ذوقهم الفني الرفيع، وبإحدى المضافات الفارهة ذات المقاعد الحجرية اعتلاها نقش دائري كالشمس فيما ذكر الباحث سترابو عبادتهم لها.
وما إن انتهى السيق بصعود تراكمات منها الصخور المتساقطة، حتى أفضى علينا ما كان يوماً جزء من جنة المدينة بخصوصية قد لا تكون للعامة أو لعابريها، سلسلة أسوار لمدرجات بساتين بين تليّن، تجلب ماء روافدهن بقنوات عبر الصخور لخزانات تجميع وسدود وآبار، وتقول لنا المثيولوجيا النبطية أن كل جزء من صخر الجبل هو جزء من جسد آلهتهم ذو الشرى كبير الآلهة وما من ماء جري عليها إلا ويمثل آلهة اللات زوجته، ومثله حدد "بعل" مجري السحاب ومنبت الزراعة وما زال يذكر اسمه بتراويد الكبار وعند المطر، وأجدادنا اسمهم اشتق من نبط أي خرج الماء وزاد ونسب إليهم الشعر النبطي.
أخذنا الطريق باتجاه مطل جبل قارون المشرف على الطرق القديمة و صادفنا للغرب من المفترق به عدد من السياح الغربين على رواحل قادمين من خروبة الفجة مختصرين مرحلة البتراء الصغيرة بفارق مسافة خمسة كم.
وصلنا لكوخ مراقبة تذاكر زوار المحمية الواجب دفع ثمنها عند المدخل الرئيسي للمدينة وإلا سوف يمنعنك الموظف اللبق من الدخول حسب التعليمات لنكمل سيرنا بسلسلة من الأدراج بين صعود وهبوط وممرات مشرفة على الأفق ووادي عربة بشعابه وروافده والجيولوجيا التي تشكلت منذ أربعة ملايين عام بانهيار الوادي وتصدعه وتشكله الوردي والمعدني ذو الحلقات اللولبية المعروفة "بليزغانغ" فائقة الجمال من العصر الكامبري، والتنوع الحيوي الفريد لعشاق البيئة السياحية ومغرمين الطبيعة، لتكون هناك جلستنا مع كأس شاي معطر بالشيح على الحطب بإحدى الاستراحات المحلية.
أخذنا الدرب عبر سلسلة من الكهوف وعبقرية القدماء المفكرين قبل أكثر من ألفي عام، للحصاد المائي بسلسلة من الخزانات وقنوات تغذيتها وما حولها من كتابات ونقوش وزخارف، بجانب الدير منحوتِ الواجهة بمساحة 2500 م2 مواجهة الغرب دون بناء، تخليداً لذكرى الملك عبادة الأول المدفون بالنقب ضمن أراضي دولته الممتدة حتى المتوسط، تعلوها جرة ليحوّل بعد استباحة الروم للمدينة إلى كنيسة ولذلك سمي بالدير، وكتب على واجهته الشمالية "لذيكر عبيد وابن زقا وأصحابه من جماعة عُبادة الآلهة" معلنين بذلك دخولنا مدنية موقع عالمي أدرجته اليونسكو ضمن التراث الإنساني عام 1985، وبذلك نكون قد قطعنا نصف الرحلة.
كان لنا جولة واستراحة أمام هذه الأيقونة المعمارية، حيث كنا بعد الخزنة على الجبل المقابل المشرف فوق أطلال بناء يحتمل انه برج مراقبة غربي، ومنه لندخل عاصمة العرب بمشاهد بانورامية لمختلف معالمها عبر الدرج القديم الهابط إليها المتخلل لوادي التركمانية وموسى وخروبة، وترحاب ممن جلس على أطرافه من بائعي التذكاريات والأقمشة والمرطبات بكل حفاوة بلغات العالم ولهجات السنتهم التي اكتسبوها من احتكاكهم اليومي بجميع ألوان البشر محرمين معتقداتهم محافظين على عاداتهم الأصيلة والتقليدية لتدرجهم اليونسكو لقائمة التراث الثقافي الغير مادي للبشرية 2005 وهناك أيضًا من يشده التعرف على حياة البشر ويأتي لهذه الغاية.
وبمنتصف الطريق عبر ممر ضيق كانت مضافة الأسد نسبة لنقش أسدين فوق بابها ينظران إليك، وليس بالبعيد موقع قطار الدير الديني وكتب قربة "هذا نصب بصرى، الذي عمله عبد الله من أجل حياته وحياة رابيل ملك الأنباط" في حين أن بصرى الشام النبطية كانت عاصمة الآلهة بعهد رابيل الثاني.
وعبر سلسلة من الكهوف، أو -كما هو معروف- المساكن السابقة لعشيرة البدول من الحويطات، وصلنا لقصر البنت المعبّد المبني من حجارة رملية بينها جذوع أشجار، أُسست لمقاومة الزلازل في حين أن زخارف جدرانه رخامية وجبص، والتي عُلقت بمشابك معدنية تثبت بالكوات الظاهرة، وبقاعته الرئيسية العالية ذات السقف الخشبي المختفي، وفوق المساحة المربعة التي ما زالت قواعدها راسخة أمام القصر نُصبت تماثيل الآلهة، التي شُيدت بزمن الملك الحارث الرابع وليس كما يشاع أنه تم بنائها لسجن إحدى الأميرات العربيات حين استولى الرومان على المدينة وسبوا نسائها.
وفوق الطريق الرئيسي المبلط ينتصب قوس المدينة بثلاث مداخل مزينة بتماثيل الآلهة تايكي حاملة جذع نخل، مروراً بنافورة وعدد من المعالم العظيمة. من أبرز هذه المعالم، المعبد الكبير وهو إحدى أضخم المباني المبنية فيها بمساحة 7560 م2 وأعمدة متوجة بارتفاع 15م، فأي رخاء كانوا به! وكانت نهاية الواجهات الملكية عند مصب المظلم، حيث وادي المطاحة والذي نقش فوق مخرجه عدد من الآلهة، وهو طريق خروجنا.
دخلنا الشق المظلم الممنوع عبوره بفصل الشتاء لخطورته بمسار كثير التعرج ضيق لم يتسع بكثير من مراحله لأكثر من شخص وأطراف صخور رملية هذبتها المياه عبر الزمان لمنحنيات أسطوانية لصخور من جميع الألوان، والتي زادها جمالاً رطوبة كبد الجبلين والتي خففت ظلالها من درجات الحرارة بفارق خمسة درجات أو أكثر، وهو لم يكن يوماً من الأيام طريق للمدينة بل ممر مائي لتصريف الأمطار وأبعادها عن مدخل السيق المفضي للخزنة ومعالمها الرئيسية وهذا ما برع به أجدادنا وأدهشوا العالم ببنيتهم التحتية بعبقرية تجانست مع الطبيعة وإدارة الموارد وتنظيم المدن، لنختم مسارنا بعد اجتياز الوادي وعبور نفقه الطويل المنحوت بمسار استجمامي متعدد المشاهدات بقطع مسافة 24 كم.