الببغاء الأردني "المدلل" مُردّدُ القرآن رحل بصمت: من يُعيد التجربة؟
أ.د. جهاد حمدان
07-05-2021 08:32 PM
لم تتوقف محاولات العلماء، بل الناس العاديون أيضا، تعليم الحيوانات لغة الإنسان. ومن ذلك محاولة لولا ووينثروب كيلوج في ثلاثينات القرن الماضي تعليم الشمبانزي جُوا الكلام إذا عاشت في بيئة بشرية. وقد تمكنت جُوا في عمر ستة عشر شهراً من فهم حوالي مئة كلمة إنجليزية متفوقة بذلك على طفل الباحثين. لكن تطورها "اللغوي" توقف. وتلا ذلك قيام الباحثين كاثرين وكيث هايس بتربية الشامبانزي فيكي في بيتهما. وحاولا تعليمها نطق بعض الكلمات الإنجليزية من خلال تعديل شكل فمها حسب الأصوات التي تحتويها الكلمة ونطقت بصعوبة عددا محدودا جداً من الكلمات مثل ماما وبابا، ولم تتقدم أكثر من ذلك. وبعد هاتين التجربتين لاحظ الباحثان ألان وبياتريس جاردنر أنّ لا فائدة من تعليم الشامبانزي اللغة المنطوقة. فبدءا بتعليم واشو لغة الإشارة الأمريكية، واستمرت التجربة أربع سنوات تقريباً. وتمكنت واشو من اكتساب حوالي مئة إشارة تدل على كلمات. كما أنتجت بعض "الجمل" البسيطة التي تتألف من كلمتين ولم تتقدم أكثر من ذلك. ومن أكثر التجارب إثارة ما قام به الباحث هربرت تيريس وفريقه البحثي لتعليم لغة الإشارة الأمريكية للشمبانزي نِمْ تِشمبسكي، إذ أرادوا اختبار المزاعم والروايات التي قدمها بعض الباحثين عن قدرات الحيوانات "الذكية" ومنها الشمبانزي لاختبار الفرضية التي طرحها العالم اللغوي الشهير ناعوم تشومسكي (انظر التشابه المقصود بين الاسمين) ومفادها أنّ اللغة البشرية لا يكتسبها إلاّ الإنسان، ولا يمكن لأي كائن آخر مهما عَظُمتْ قدراته أنْ يتعلمها. وحرص الباحثون على توفير أفضل الشروط لعملهم التجريبي من تنظيم سجلات دقيقة وتصوير عمليات التعليم والتواصل بالفيديو. فماذا كانت النتيجة؟ لم يتمكن نِمْ من تجاوز مرحلة الجملة التي تتألف من كلمتين. وخلُص تيريس إلى أنّ نِمْ بدأ بإظهار مقدرة على استخدام اللغة كما يفعل الأطفال إلاّ أنّ هذه المقدرة لم تتطور بالسرعة والكيفية التي تميّز عملية اكتساب الأطفال للغتهم الأم. فنادرا ما بدأ نِمْ محادثة مع مدربيه، وكان معظم الوقت مستجيباً ومتلقياً. وعزا الباحثون فشل الحيوانات في اكتساب لغة الإنسان إلى أنّ أيا منها لا يمتلك جهازاً صوتياً ذا بنية شبيهة بالجهاز الصوتي عند الإنسان، بالإضافة إلى ارتباط اللغة البشرية بالدماغ والجهاز العصبي.
ولكن ماذا عن الببغاء الرمادي أليكس الذي اشترته الباحثة أيرين بيبربيرغ عندما كان عمره عامًا واحدًا عام 1976 ورحل عام 2007؟ لقد عددت أيرين إنجازات أليكس فقالت: ذكاؤه مساوٍ لذكاء الدلفين والشمبانزي ومعادلٌ في بعض جوانبه لذكاء طفل في الخامسة. يتعرّف على 50 شيئاً مختلفاً ويميّز الكميات حتى ستة، والألوان حتى سبعة، والأشكال حتى خمسة. وصلت مفرداته إلى 100 ومنها مفاهيم مثل أكبر وأصغر ومشابه ومختلف. وكان قادراً على طرح أسئلة على محادثيه. وإنْ تعب من التدريب قال: أريد أنْ أعود إلى القفص، وإنْ غضب منه المدرّب ردّ "آسف". ولكنّ أليكس قضى قبل أنْ يمحو أميته فيتعلم الأبجدية الإنجليزية. هذا وشكّك بعض الباحثين بما روته مدربته وقالوا إنّ إنجازاته لا تختلف عن ما حققه نِمْ تِشمبسكي إذْ ظلت محصورة في إطار التقليد والمحاكاة. وردّ الباحثون الذين عملوا مع أليكس على هذه الانتقادات فقالوا: كان أليكس قادرا على التحدث مع جميع أعضاء فريق التدريب ومع المراقبين الذين كانوا يحضرون لتسجيل النتائج وتوثيقها.
انتقالا إلى الأردن، فقد ضجت وسائل الإعلام المختلفة قبل مدة بمقاطع تحتوي على فيديوهات لببغاء رمادي اسمه "المدلل" لأنه كان يحظى بكثير من الاهتمام والدلال كما أفاد صاحبه ومدربه السيد حسين السوالمة في لقائي معه مؤخراً. وذكر السيد السوالمة أنه اشترى الببغاء وعمره ستة أشهر. وما انفك عن تدريبه يقينا وإيمانا منه بأنّ المدلل سوف يستجيب ويتكلم. وقد هيأ المدرب للمدلل جميع وسائل الراحة من مسكن وطعام وشراب وجو أسري مناسب مما ساعد الببغاء على الاستجابة السريعة للتدريب، فبدأ بنطق الكلمات المنفردة التي تدرب علها، وتبع ذلك الجمل والأدعية القصيرة وصولاً إلى حفظ قصار السور القرآنية. وذكر السيد السوالمة أنّ الصبر والأناة والتكرار كانوا وراء سر تعلم المدلل وإتقانه لنطق الحروف ومنها الصعبة كالقاف والعين والحاء والراء والطاء والغين. ومع أنّ المدرب لم يزودنا بسجّل للكلمات التي حفظها المدلل وصدح بها إلا أنه ذكر أنّ حصيلة مفرداته قاربت 160 كلمة. أما المادة المسجلة التي استمعنا إليها فاشتملت على أدعية قصيرة منها "أستغفر الله" و"حبيبي يا رسول الله" بالإضافة إلى ثلاث سور قرآنية قصيرة هي الإخلاص والمسد والكوثر. وما لفت الانتباه أنّ لفظ الببغاء كان سليما وكذلك التنغيم والنَبْر. أما اللكنة فكانت فصيحة محايدة. وربما لو استمع ناطقون بالعربية إلى التسجيلات لما قال معظمهم إنها صادرة عن مخلوق ليس من عالم البشر. بقي أنْ أقول إنّ السيد السوالمة ليس لغويا ولا متخصصا في علم النفس على عكس أيرين بيبربيغ مدربة أليكس االمتخصصة في علم نفس الحيوان. وربما لو تواصل السيد السوالمة مع متخصصين في اللغويات وبخاصة علم اللغة النفسي لتمكن من وضع برنامج تدريبي نطقي منظم ومتسلسل للببغاء ولجُمعت بيانات موجّهة بأهداف واضحة يمكن مقارنتها ببيانات التجارب السابقة ومنها ما ورد حول إنجازات أليكس.
توفي الببغاء مدلل في عام 2019 عن عمر ست سنوات إثر ظهور ورم كبير ومزعج جوار إحدى عينيه مما دفع مدربه لأخذه لطبيب بيطري، لكن العلاج لم يُجْد ورحل المدلل ودُفن في حديقة بيت مدربه. ويعتقد السيد السوالمة أنّ عينا حاسدة أصابت المدلل فقضت عليه، على الرغم من تحذير كثير من الأصدقاء له بعدم نشر مقاطع فيديو تظهر إنجازاته. ويقول كنتُ أظنّ أنّ حفظ المدلل لبعض سور القرآن سيحميه من العين والحسد.
وفي النهاية أؤكد على أهمية استمرار التجارب العلمية لتدريب الببغاء على النطق والكلام واستنفاذ أقصى إمكانياته. فالنجاح في إيجاد ببغاء ناطق له فوائد وتطبيقات مختلفة ومنها توظيفه في تدريب الأطفال الذين يعانون من صعوبات في النطق والكلام. فالببغاء الناطق يمكن أن يساعد في تحفيز هؤلاء الأطفال لنطق الأصوات التي تمثل مشكلة لهم في أجواء تشويقية ومسلية لأنّ المدرب هنا سيكون أخصائي النطق ومساعده الببغاء.
وفي الختام، أتقدم بجزيل الشكر إلى السيد السوالمة الذي استضافني في مكتبه ووفر لي ما طلبت من معلومات حول تجربته الغنية في تدريب المدلل.