العرب ليسوا فنانين بذر الرماد في بحلقة العيون فقط ، بل هم المبدعون الأشاوس في رش غيوم السكر على جثة الموت الباردة ، لتحويلها إلى بوظة شهية تلطف حرهم وقيظهم ، وهم أصحاب امتياز في تدبيج التسميات والألقاب والنعوت ، ولهذا فقد سموا هزيمة أيار بالنكبة ، وهزيمة حزيران بالنكسة،، ، في إشارة سابرة الى أن هذه الحرب ليست إلا كبوة جواد ، ما يلبث أن ينهض يكمل مسيرته المجيدة نحو السؤدد ، وهذا ما ضاعف من هزائمنا وفاقمها ورتب عليها مزيدا من الخسائر ، فإذا كان مواجهة الهزيمة تتطلب أن تعترف بها أولاً ، كما أشار ميكافلي بكتاب الأمير ، فإن أمة العرب ضحكت على ذقن حالها: مصيبتنا أننا لا نسمي الأشياء بأسمائها،،.
مرت ذكرى النكبة ، ورغم هذه العقود الطويلة إلا أنني شعرت بأن هذه الهزيمة ما زالت طازجة بصفحة التاريخ ، لم يبرد طلق مخاضها ، ولم يجف سيل دمها عن عقبيها ، ولم تنكمش مشيمتها ، ولم يهدأ نفث زفيرها وشهيقها الملتاع ، طازجة أحسها كجرح مرشوش بالملح والزجاج المبروش ، وربما شبنا قبل أواننا بكثير ، وربما ولدنا شيوخاً بعكازات عوجاء ، وربما ذبلت أفراحنا الخجلى تحت وطأتها ، واحدودبت قاماتنا تحت أثقالها وأثافيها ، لكنها ظلت طازجة وستظل طازجة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا،،.
وإذا كانت كل مصيبة تبدأ كبيرة وتضمحل شيئاً فشيئاً حتى تتلاشى وتندمل ، إلا هزيمة نكبة الثمانية والأربعين فقد ولدت كبيرة ، وازدادت ثقلاً مع كل دقيقة علقم تمر في ميناء ساعاتنا ، وكلما قلنا ستزول سحابة الشوك هذه: تبرعمت حولها الهزائم ، وخرجت من جنباتها فسائل الانكسارات ، ولهذا فكلما دقَّ الكوز بجرة أيارنا،: امتلأت وجوهنا دموعاً ، وأجهشنا بالوجع حدَّ التراقي: فعسى الوجع يحزّ فينا جلداً ، وعلَّ الألم يهزُّ فينا شَعراً بات شوكاً،،.
اليابان خسرت حربها ، لكنها نهضت من كبوتها قوية مزدهرة ، وكذلكم ألمانيا وغيرها من شعوب العالم ، إلا نحن فهزيمتنا لا تتلاشى إلا لتكبر من جهة أخرى ، ولا تذبل إلا لتتناسل إلى هزائم مبثوثة في كل الجنبات: فكم نكبة ونكسة مرت بنا عقب أيار ، مرورا باجتياح لبنان حتى جرح العراق حتى قتل غزة الأخير؟،،.
ramzi279@hotmail.com
الدستور.