"اي حب للعربية الفصحى.. واي التزام بنحوها وصرفها.. واي جرس لنطقها وجمال لاستخدامها...."
في مطلع السبعينيات من القرن الماضي كنا لا نزال على مقاعد الدراسة في قرى وبلدات الطفيلة.. وكنا لا نعرف الكثير عن السينما ولا عن السياسة العالمية ونجومها الا بالقدر الذي تنقله اخبار الاذاعة وصفحات الجرائد والمجلات التي تقع عليها ايدينا ونعاود قراءة زواياها مرارا بشغف لا مثيل له.
بالمقابل كان كل واحد منا يعرف ميول الاساتذة الذين يوفدون لتدريسنا وكنا نعرف خلفياتهم ومواهبهم وانحيازاتهم نحرص على اجراء المقارنات بينهم في اللغة والمظهر والاسلوب ومعالجة المواقف والحضور والتأثير.
في مدرسة الطفيلة الثانوية التي ضمت نخبة الاساتذة الجامعيين واقدرهم كنا نشعر اننا امام قامات لا يملك احدنا الى الشكر والتقدير لله على وجودها في بلدتنا ومدرستنا ومحيطنا فقد كان فؤاد العوران قامة سامقة ونموذجا للرجل الذي يود كل واحد منا ان يكبر ليكون كما بقي الحج سلامة العودات صورة مشرقة للمربي الحكيم الذي يغفر زلات طلابه ويلاحقهم برعاية ابوية لاتشوبها القسوة ولا يضعفها اللين. كان في مدرستنا حشد من الخبرات التي حمل اصحابها اسم سليمان فقد كان سليمان القوابعة وسليمان الفريجات وسليمان صالح وسليمان عيسي الى جانب استاذة التاريخ عبدالحفيظ الخمايسة ومحمد الزغايبة واللغة العربية احمد العمري والاحياء ممدوح المحيسن والشيخ محمود الشباطات ومعلم الرياضيات الهادي يوسف كشكول واستاذ الكيمياء فريد البستنجي يديرون دفة التعليم في اعرق مدارس الطفيلة واهمها.
في المدرسة التي تأسست على شاكلة معاهد التجهيز التي انشأت في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين كان الطلبة اكثر نضجا واكثر تهيئة واستعدادا للانتقال من مقاعد الدرس الى ميادين التدريب ومكاتب العمل وصفوف المهن التي قرروا الالتحاق بها.
في تلك الاعوام كان العالم اكثر املا والدنيا اكثر اشراقا والناس اكثر اقبالا علي الحياة وثقة بالمستقبل.في مديرية التربية والتعليم التي استحدثت في اللواء بقيادة المربي القومي العربي مرضي القطامين برزت شخصية الاستاذ عودة الله منيع القيسي فقد اصبح وبسرعة فائقة اسم لامع يتحدث الجميع عن سمته وحضوره وعذوبة ملافظه حتى انه شكل ظاهرة اصبح الجميع يتوق الى تاملها والتقرب من وهج وجاذبية حضورها.
عودة الله الذي نشأ في قربة الطيبة "خنزيرة سابقا" ودرس اللغة العربية واحب قواعدها وادابها وابحر في علومها وغاص في جماليتها كان التربوي الاوحد الذي لا يتحدث الا بجمل ملتزمة بالاصول والقواعد اللغوية فهو بنادي على الاطفال ويحادث البقال ويوجه السائق بكلمات وجمل يلفظها مشكلة ومعربة بحيث وبصورة تنبهك الى جمال اللغة وحسن وقعها علي الاذن والسمع.
في بقالة شقيقي الاكبر ابو علي التي لا تبعد كثيرا عن البيت الذي اقام فيه المساعد الفني لمدير التربية والتعليم عودةالله القيسي كنت اتترصد حضور الرجل الهادي الوقور لاسترق السمع لبعض ما يقولمن جمل وكلمات لاغذي السمع بالبنى والتراكيب التي طالما تمنيت لو اني اجيد مهارات الصياغة والتعبير اللتين برع بهما استاذنا الجليل.
في الطفيلة وجوارها لا يزال الناس يحفظون العديد من الجمل والاقوال والتراكيب التي صاغها ابن منيع القيسي وهو معلما ومديرا واستاذا جامعيا وكاتب مقال اسبوعي.
في ذات يوم نبه عودة الله القيسي طفله البالغ من العمر سبع سنوات وهو يقطع الشارع بالقول " داهمتك الماعز يا هيثم ادركها" لتبقى الجملة نموذجا وعينة تطل من خلالها على الكيفية التي وظف فيها الرجل وعيه اللغوي في التخاطب مع من يحرص البعض على مخاطبتهم بلغة طفولية مصطنعة ظنا منهم ان الاطفال لا يحسنون الفهم لما قد نقول.
في العقدين الاخبرين من عمر استاذ الاجيال وصديق العربية وفارسها عمل ابا هيثم في التعليم الجامعي استاذا لللغة العربية وكاتبا في قضايا اللغة والسياسة والمجتمع الى ان اختار الانتقال الى جمهورية مصر العربية ليقيم بين المكتبات ويقترب من ارث الحكيم وطه حسين والعقاد وبتعد عن صخب الاقتتال على ارضاء زيد واغضاب عمرو.
اليوم تلقينا بحزن واسف نبأ رحيل الرجل الذي احببنا تاركا خلفه ارثا كبيرا من المحبة والكتابة والتقدير والعرفان.. لروحك الرحمة ايها الجليل ولاهلك وذويك الصبر والسلوان.