(القرار الكندي بوقف تمويل "أونروا" ينبغي له أن يضع العلاقات الأردنية ـ الكندية على المحك في ضوء مخاطر مضاعفاته على الأمن الوطني الأردني)
كانت كندا منحازة إلى المشروع الصهيوني في فلسطين منذ تبنت ثم أيدت قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لتقسيمها عام 1947 ثم اعترفت في العام التالي بدولة إسرائيل "بحكم الأمر الواقع" قبل أن تعترف بها اعترافا "قانونيا" في العام الذي تلاه، وبعد ذلك حاولت أن تظل محايدة في الصراع بين هذه الدولة وبين الدول العربية حتى تخلت عن محاولة التظاهر بالحياد عام 2006 عندما تولى السلطة فيها رئيس وزرائها الحالي ستيفن هاربر، لتنحاز انحيازا سافرا إلى تل أبيب متخلية عن "موقفها في الوسط إلى موقف مؤيد بصراحة لإسرائيل" كما قال بول هاينبيكر السفير الكندي السابق لدى الأمم المتحدة.
وبينما يدور جدل ساخن في الأردن حول مصير اللاجئين الفلسطينيين وتوطينهم، يفاجأ الأردن الذي يستضيف العدد الأكبر منهم بأن كندا التي تربطها به علاقات صداقة تقليدية تاريخية كانت أول دولة في العالم توقف تمويلها لوكالة "أونروا" التابعة للأمم المتحدة التي ترعى شؤونهم منذ نكبتهم الناجمة عن انحياز كندا وغيرها إلى المشروع الصهيوني في وطنهم، في خطوة تمثل سابقة خطيرة تزعزع الثقة العربية والفلسطينية فيها، وهي الثقة التي دفعت الدول العربية إلى الموافقة على تسليم كندا مسؤولية رعاية لجنة اللاجئين الفلسطينيين التي انبثقت عن مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 لتستضيف أوتاوا بعد ذلك سلسلة اجتماعات دولية منذ عام 1992 بحثا عن حل عادل لقضية اللاجئين وهي اجتماعات قاطعتها دولة الاحتلال الإسرائيلي حتى توقفت هذه الاجتماعات بعد وصول "عملية السلام" إلى طريق مسدود منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 يأسا من هذه العملية. ويلفت النظر أن كندا قررت وقف تمويلها للأونروا في السابع والعشرين من كانون الثاني الماضي بعد عشرين يوما فقط من إشادة رئيس الوزراء الأردني سمير الرفاعي بالدعم الذي تقدمه كندا للأونروا منذ عام 1951 أثناء استقباله رئيس مجلس الخزينة الكندي الزائر فيك تووز في السابع من ذلك الشهر.
في الثاني عشر من الشهر الجاري قال السفير الأردني في أوتاوا نبيل بارتو إن القرار الكندي أثار قلقا كبيرا جدا "على أعلى مستوى في الأردن" لأن الأونروا ستكون "قد انتهت" إذا حذت دول أخرى حذو السابقة الكندية، "وحتى الآن لا يوجد أي جواب واضح" من كندا حول الاستفسارات الأردنية عن تفسير لهذا القرار، موضحا أن المساعدات الكندية للأونروا بعد القرار تذهب إلى "الحالات الطارئة" وليس إلى ميزانية الأونروا التي حذر مفوضها العام فيليبو غراندي في رام الله يوم الأربعاء الماضي من أن الوكالة ستضطر إلى وقف عملياتها في كل أماكن تواجد اللاجئين الفلسطينيين إذا لم يسدد العجز في ميزانيتها البالغ (175) مليون دولار منها (90) مليون دولار لا يمكن الاستغناء عنها "على الإطلاق" لإدارة الوكالة.
وتبدو آذان أوتاوا صماء لا تسمع لا التحذير الأردني ولا دعوة رئيس وزراء السلطة الفلسطينية في رام الله د. سلام فياض الخميس الماضي التي حثت الدول المانحة للأونروا للوفاء بتعهداتها بتمويلها ولا دعوات مماثلة من الحكومة التي تقودها حركة حماس في قطاع غزة المتضرر الأول والأكبر من أي وقف لعمليات الأونروا.
لقد عبر لاهاف هاركوف المتحث باسم "المبادرة الإسرائيلية" في القدس المحتلة عن ترحيب دولة الاحتلال الإسرائيلي بالقرار الكندي لأن "كندا تقدم مثالا لدول العالم".
فدولة الاحتلال تدعو منذ إنشاء الأونروا إلى حلها كخطوة أساسية نحو تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، وترى "في حل أونروا الخطوة الأولى نحو سلام دائم ومستقر في المنطقة"، لأن الأونروا ليست مفوضة من الأمم المتحدة بإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين، ولذلك فإنها تطالب بنقل صلاحيتها إلى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين المفوضة بتوطين اللاجئين في العالم، ومن هنا خطورة القرار الكندي الذي ينبغي له أن يضع العلاقات الأردنية والسورية واللبنانية (حيث التجمعات الكبرى للاجئين الفلسطينيين) ـ الكندية على المحك في ضوء مضاعفاته الخطيرة على الدول المعنية، ناهيك عن مخاطره السياسية الواضحة على أي حل عادل للقضية الفلسطينية عبر "عملية السلام" التي تدعي أوتاوا حرصها عليها وعلى استئناف مفاوضاتها في الوقت الراهن.
إن سياسة الهجرة الكندية التي جعلت أوتاوا تعرض قبول توطين لاجئين فلسطينيين فيها "كجزء من خطة سلام في الشرق الأوسط" بينما أصدرت محكمة فدرالية كندية في تشرين الثاني / نوفمبر عام 1995، في ذروة موجة هجرة اليهود من الاتحاد السوفياتي بعد انهياره، قرارا يحرم اليهود من أي بلد كانوا من حق طلب الهجرة إلى كندا كلاجئين بحجة أنهم يحصلون على الجنسية الإسرائيلية تلقائيا بموجب قانون "العودة" الإسرائيلي، هي سياسة لا تفسير لها سوى كونها سياسة تعارض عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم وتشجع هجرة اليهود إليه بدلا منهم، مما دفع فلسطينيين إلى حرق دمية تمثل صورة وزير الخارجية الكندي آنذاك جون مانلي، غير أن خلفه الحالي لورنس كانيون لا يبدو معنيا بمشاعر العرب والفلسطينيين وهو وحكومته ينتهجان سياسة أكثر انحيازا ضدهم.
وتستعد أوتاوا آخر أيار / مايو الجاري لزيارة بنيامين نتنياهو، وهو ثاني رئيس وزراء لدولة الاحتلال الإسرائيلي يزورها بعد زيارة اسحق رابين لها عام 1994، بدعوة من نظيره هاربر الذي اعتبره ناقد كندي نسخة من الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو. بوش ما زالت تحكم في العاصمة الكندية بعد أن سقط حكم بوش في واشنطن. وتأتي زيارة نتنياهو "اعترافا بصداقة رئيس الوزراء هاربر لإسرائيل" وتعبيرا عن "الروابط القوية بصورة استثنائية" بين الدولتين كما قال ديفيد واينبيرغ مدير مكتب إسرائيل للجنة الكندية الإسرائيلية.
وقد أصدرت كندا طابعا تذكاريا بمناسبة مرور ستين عاما على إقامة العلاقات الدبلوماسية الثنائية في الرابع عشر من نيسان / أبريل، مما "يبعث إشارة خاطئة تماما للحكومة الإسرائيلية"، لأن إصدار الطابع ياتي في أعقاب إعلانها عن توسيع المستعمرات الاستيطانية اليهودية في الضفة الغربية لنهر الأردن وبعد العدوان الوحشي على قطاع غزة العام الماضي كما قال "كنديون من أجل العدل والسلام في الشرق الأوسط" في بيان لهم. كما رفض الاتحاد الكندي لعمال البريد الموافقة على إصدار هذا الطابع الأول من نوعه وقال رئيسه دنيس ليملين: "نحن محتارون حول الحديث عن القيم المشتركة مع بلد تجاهل باستمرار قرارات الأمم المتحدة والمحكمة الدولية الخاصة بالاحتلال المتواصل للضفة الغربية وغزة"، لكن ليملين ربما لم يدرك بعد أن حكومة بلاده الحالية في انحيازها للاحتلال ودولته إنما تتجاهل أيضا ليس تلك القرارات نفسها بل وكذلك القانون الدولي والقانون الإنساني، وبخاصة في قطاع غزة.
وهذا التجاهل الكندي للشرعية والقانون الدولييين بالتأكيد لا يؤهل كندا لشغل واحد من مقعدين غير دائمين في مجلس الأمن الدولي تتنافس أوتاوا حاليا على شغلهما مع ألمانيا والبرتغال بعد أن تخلي النمسا وتركيا هذين المقعدين عام 2011 ـ 2012، وسوف يراقب الرأي العام الأردني والعربي عن كثب موقف الأردن وغيره من الدول العربية من المسعى الكندي لشغل أحد المقعدين.
في الثاني عشر من كانون الثاني / يناير العام الماضي كانت كندا البلد الوحيد بين (47) دولة الذي عارض قرارا بإدانة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف، وبسبب عدم عضوية الولايات المتحدة في هذا المجلس بدت كندا كمن يقوم بدور أميركي بالوكالة في الدفاع عن دولة الاحتلال ظالمة أو مظلومة، بينما امتنعت عن التصويت ثلاثة عشرة دولة معظمها أوروبي لا تقل عن كندا انحيازا للمشروع الصهيوني في فلسطين أو ضمانا لأمن الدولة التي انبثقت عن هذا المشروع.
إن انحياز حكومة هاربر لدولة الاحتلال الإسرائيلي يجعل تأييد كندا المعلن ل"عملية السلام" على أساس حل دولتين لشعبين تأييدا أجوف لا معنى له لايقل مدعاة للسخرية وعدم المصداقية وعدم الثقة العربية والفلسطينية عن تأييد حكومات دولة الاحتلال المتعاقبة لهذا الحل، وبخاصة حكومة نتنياهو الذي سوف يستقبله هاربر في الحادي والثلاثين من الشهر الجاري.
لقد كان منع عضو البرلمان البريطاني السابق جورج غالوي المناصر للقضايا العربية من دخول كندا العام الماضي مؤشرا إلى غلو حكومة هاربر في انحيازها لدولة الاحتلال حد التضييق على أنصار القضية الفلسطينية من غير العرب.
لا بل إن حكومة هاربر بدأت تضيق على الكنديين أنفسهم فأوقفت تمويل "كيروس" (KAIROS) وهي منظمة معونات إنسانية مسيحية وكذلك "الاتحاد العربي الكندي" متذرعة بأن انتقاد الهيئتين للاحتلال الإسرائيلي هو معاداة للسامية، وبالذريعة نفسها قاطع هاربر مؤتمر "دوربان 2" برعاية الأمم المتحدة.
وتستمر كندا في دعمها لاستمرار فرض الحصار على قطاع غزة بينما تحارب دعوات مقاطعة الاستثمار في دولة الاحتلال. كما أنها ما زالت مع الولايات المتحدة واستراليا ونيوزيلاندا ترفض التوقيع على "إعلان حقوق الشعوب الأصلية" لسنة 2007 حتى لا تجد نفسها ملزمة بمعارضة سياسة إسرائيل ضد مواطنيها من عرب فلسطين وأشقائهم الخاضعين لاحتلالها. وهي ما زالت تدرج معظم فصائل المقاومة الفلسطينية على قائمتها للمنظمات "الإرهابية".
وإذا كانت كندا قد تعهدت في مؤتمر باريس عام 2007 بدعم السلطة الفلسطينية بمبلغ (300) مليون دولار على مدى خمس سنوات فإنها خصصت معظم هذه التعهدات لل"الأمن"، "وبخاصة عبر مساهمتنا في مهمة المنسق الأمني الأميركي الجنرال كيث دايتون ومكتب تنسيق الاتحاد الأوروبي لدعم الشرطة الفلسطينية" كما تقول في مواقعها الالكترونية الرسمية.
أما المعاملة الجمركية التفضيلية التي تمنحها كندا للمنتجات الفلسطينية فقد حصرتها في إطار "اتفاقية التجارة الحرة الكندية ـ الإسرائيلية"، وهذه الاتفاقية تعترف ضمنا بالاحتلال الإسرائيلي لأنها تعرف "إسرائيل" بأنها المناطق التي تطبق فيها قوانين الجمارك الإسرائيلية وهذه المناطق تشمل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بينما الاتفاقية الإسرائيلية المماثلة مع الاتحاد الأوروبي مثلا تنص صراحة على عدم شمولها الأراضي الفلسطينية المحتلة.
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*