من وحي المئوية (12)
في المقالة السابقة تحدثنا عن الأسباب التي حالت دون تبني الأردن نهجاً اقتصادياً واضحاً، لظروف خارجية انطوت على كثير من الهزات والامتحانات الصعبة التي أملت تركيزالاهتمام على المدى القصير والاستجابة لمتطلباته التي لا تحتمل الانتظار من ناحية، ولأسباب داخلية تمثلت في عدم اكتمال البنى المؤسسية في النصف الأول من القرن الماضي، مماجعل الدولة مضطرة بحكم تكوينها أن تمزج بين الرعوية والرأسمالية المنضبطة، ولذلك تمكن الأردن خلال تطوره المؤسسي في القطاعات العامة والخاصة والمدني أن يحافظ على توزيع دخل يوصف بالعادل، وعلى م?احة واسعة لطبقته المتوسطة،وعلى تقلب الطبقة الغنية. هذه المرونة الاجتماعية حققت للأردن الاستقرار المجتمعي.
أما في القرن القادم، فهنالك تغيرات مرتفبة كبيرة على المستويات الدولية، والإقليمية،وحتى المحلية. ولكي نتمكن من دراستها وفهمها والتنبؤ بها، فنحن بحاجة إلى استراتيجية تحفظ للدولة كيانها واستمراريتها، وتضمن لها انطلاقها، ويضع الاستراتيجية شخوص لهم معرفة ويمثلون مختلف التخصصات والنشاطات، ويخضعون في قراراتهم لمنطق علمي سليم،ولمعلومات وقياسات دقيقة، إذ لم يعُدْ المشهد ساذجاً كما كان على غرار » يا حاجب امنح فلاناً الف الف دانق».
وسوف نشهد خلال العشرين سنة القادمة تراجعاً في أهمية النفط ينتهي معها على أبعد حد دور النفط في تشكيل منطقتنا واصطفافاتها. ولن تبقى هذه الاصطفافات والتشكيلات الجغرافية على حالها من التقلب والتغير السريع، ولَم تعد جزراً في أرخبيل اندونيسيا تظهر فوق سطح الماء، ثم سرعان ما يتغير الماء عليها فيغور بعضها في باطن المحيط، ويطفو بعض آخر فوق ذلك الماء. إذا انتهى عصر النفط الذي دام مدة قرن إذ اكتشف النفط في منطقتنا عام 1919 في عبدان بإيران، فلربما بدأ انحساره بشكل واضح عام 2019.
وبانحسار النفط، وبروز موارد جديدة في المنطقة، فإن جغرافية المنطقة ستكون مرشحة للتغيير. وقد كَتَبَ في هذا الموضوع كثير من خبراء سياسيين ومراكز أبحاث عريقة مثل «تشيتام هاوس» بلندن، ومراكز مثله في واشنطن وموسكو، وبرلين وباريس وبيجينج. وصدر عام 2009 كتاب عنوانه «انتقام الجغرافيا «أو» The Revenge of Geography» للكاتب روبرت كابلان (Kaplan). والكتاب ليس عميقاً، ولكن فيه دعوة إلى إعادة بناء شرق أوسط جديد تقوم جغرافيته على أساس الإثنية العرقية، وقال إن إغفال معاهدة «سايكس بيكو» للبعد الديمغرافي الإثني وتركيزها على ?قسيم المنطقة وفق مصالح الدول الاستعمارية في نهاية الحرب العالمية الأولى هو الذي أبقى المنطقة في حالة صراع دائم.
وبالمقابل، أنا أعلم أن سمو الأمير الحسن كان يعمل على فكرة انشاء منطقة سمّاها «وانا أو WANA»، وهي تعني منظومة غرب آسيا وشمال افريقيا (West Asia and North Africa) والسبب يعود إلى أن كلمة الشرق الأوسط لا تأخد البعد القارّي للوطن العربي بعين الاعتبار. وقد غيب مصطلح الشرق الأوسط الغامض الهوية القارِّيَّة للمنطقة ولَم تعد تنتمي لأي منها.
ولتعميق المفهوم ببعده الديمغرافي فإن المنطقة فيها أربعة مكونات ديمغرافية أساسية وهم العرب، والترك (وليس الأتراك) والفرس والكرد (وليس الأكراد). وأن على الجميع أن يعترف بالآخرين، وبخصوصيتهم، وبحقوقهم، لتصل المنطقة إلى حالة استقرار جغرافية واضحة، يجعلها قادرة على التفاعل فيما بينها، وتحقيق حد أدنى من التكامل يضمن لها القدرة على مفاوضة باقي مناطق العالم بجدية.
وليس عند الأمير الحسن بعد ذلك اعتراض ذهني علمي على تكوين وحدات جغرافية متجانسة داخل منظومة » وانا» ومن هذه على سبيل المثال منطقة المشرق العربي التي تضم العراق وبلاد الشام لما بين أهلها من تجانس، وقدرة على التكامل واكمال بعضهم لموارد بعض، بحيث تصبح كتلة سكانية مكونة من حوالي (90) مليون نسمة.
إذا كانت استراتيجيتنا ستعتمد على هذا المحور، خاصة إذا استطاعت اسرائيل بعد السلام وإنشاء دولة فلسطينية أو بدونه، أن تطيرمتجاوزة إيانا إلى الخليج، فنحن في الأردن وفلسطين سنكون بحاجة ماسة إلى عمق عربي، وهو جوارنا. ولا يعني هذا أننا لا نريد التعامل مع التجمعات العربية مثل مصر والسودان وليبيا، أو دول الخليج، أو شرق إفريقيا واليمن.
إذن لم يعد الآن خيارنا قائماً على قدر الموارد التي يمكن ان نحصل عليها من علاقتنا واسترضاءاتنا لهذه الدول، بل على علاقة التساوي والندية، والتحديد الدقيق لمصالحنا على المدى الطويل. لقد نظرت إلينا دول الخليج، خاصة الحكومات، نظرة رعوية. وهم يعطوننا مالاً ونحن بمال الخيرين نجود على الرعية في الأردن وظائف ومشاريع لها ضرورة أو ليس لها ضرورة. وعندما تتراجع هذه المساعدات، ويقل دخل الدولة، نجد أنفسنا في حالة نزاع على موارد الحكومة، ومن خلالها تتجدد العلاقات بين مختلف فئات الشعب الأردني، ونبحث لنا عن سند غير القانون ?العدل مثل القبيلة أو العزوة أو الجاه أو المركز لنحصل على القليل المتاح لدى الحكومة.
أطرح هذا السيناريو حتى نرسم سياساتنا الاقتصادية والاجتماعية، وتحديد فرص العمل، وتحديد انفاقنا العسكري والمدني، ونحدد تحالفاتنا، ونضع الأسس لجعل خياراتنا الاستراتيجية مستقرة حتى يقرر الآخرون تبديلها لا نحن.
أما على البعد الدولي فالمتغير الأساسي هو أن الدولتين الأعظم الولايات المتحدة والصين ستبقيان كذلك حتى عام 2050 أو بعد ذلك، وأما الاتحاد الأوروبي فعليه أنيقبل أن يكون قوة من الصف الثاني إلا إذا استطاعوا ان يتفاهموا مع روسيا، ويدخلونها إلى الاتحاد الاوروبي ويساعدوها على الاستفادة من مواردها وإمكاناتها وإبداعاتها بإسلوب أفضل فتتحول إلى قوة اقتصادية تعطي أوروبا دفعة كبرى.
ولكن القوة الاقتصادية لن تتحدد في المستقبل إلا بالتفوق التكنولوجي وبالقدرة على تحويل التكنولوجيا إلى تطبيقات إنتاجية بشكل أسرع. والعالم مضطر أن يدفع الصين والولايات المتحدة إلى التفاهم حول المنصات الالكترونية لتدفق العملات من ناحية وإجراء المقاصة على تبادلاتها من ناحية أخرى، ومن تكن له الغلبة في هذين الموضوعين، ستكون لَهُ اليَدْ العليا في العالم. ولذلك سيكون ضغوط على دول مثلنا للاصطفاف بمغريات اقتصادية. وعلينا أن نقرر أين يقع التوازن خدمة لمصالحنا الاستراتيجية.
أما على المستوى الداخلي، وفِي ضوء القرارات المصيرية، فإننا يجب أن نتبنى منهجية اقتصادية واضحة، توصلنا إلى قرارات واضحة حول عدد من الأمور التي يجب أن تخضع للمعايير التالية:
أول هذه المعايير هو حاجتنا لتثوير إداراتنا حتى نتمكن من ادارة مواردنا بالشكل الصحيح والأكثر فعالية بما يلبي حاجاتنا ويجعلنا أكثر تنافسية، وَمِمَّا يمكننا من تراكم الثروة والبناء عليها، وبما يجعل نظامنا الاقتصادي أكثر عدالة وإنصافاً حتى نبقى قادرين تحت أي ظرف، وفِي أي زمان، على حشد الطاقة الكامنة في شعبنا لتطوير مواردنا وزيادتها والتحكم فيها، وعلى الالتفاف خلف قيادتنا في زمن التجارب الصعبة.
وثاني هذه المعايير هو أن نصبح شعباً واحداً، ومرجعيتنا واحدة وهي الدستور، ولا نسمح بالنكوص عنه، أو التسلل من خلال أي ثغرات فيه لأي أحد. فعندما أقول انا أردني فأنا أردني. وعندما يحين عام 2050 سيكون الأردنيون بعد جيل ونصف كلهم مِن مواليد هذا البلد. فلنعمل على بناء الولاء للدولة، ثم للمحافظة، ثم للمدينة أو القرية. وهذا التسلسل الهرمي للدولة هو الذي يجب أن يعكس التنظيم الهرمي للدولة. بحيث تنتج المدينة أو القرية كفاءات تتولى مناصب فيها. ومتى ما نضجت انتقلت إلى المحافظة، أو المقاطعة وعملت فيها. ومن نجح بتفوق انتق? إلى الخدمة على مستوى الدولة كلها. وإذا رضينا بهذا النموذج، فعلينا أن نبني تكتلات سياسية وتنظيمات ادارية، وقوانين انتخاب، وقوانين أحزاب تعكس هذه الهندسة المعمارية لبنياننا السياسي.
وعلينا أن نختار نظاماً اقتصادياً ونهجاً حراً، لكنه محكوم بعدم الغش، والاحتكار، والتطفيف، والتوازن بين المصالح العامة والخاصة، وبناء نظام قائم على الكفاءة (meritocracy) بموجب أسس معتمدة. فالتنافس القائم على مرجعيات خلقية وتربوية صحيحة هو الحل الأمثل.
والحريات يجب أن تفهم أنها حق لكل مواطن، ولكن تجاوز شروطها يحولها من حق إلى امتياز يمكن سحبه من الشخص المتمادي. ويقضي بذلك تشريع قانوني عادل، وحكم قضائي نزيه، ولا يترك تقدير الأمور المتعلقة بالحقوق المدنية لأي تنفيذي بغض النظر عن علو مركزه.
إذن نحن بلد ملكي وراثي دستوري، والملك فيه قائد للجيش ويتمتع بصلاحيات رئيس دولة كالولايات المتحدة، وهو الذي يختار شخص رئيس الوزراء لابناء على توصية مستشارية ورغباتهم، بل وفق ما أفرزه الشعب من قياديين ونواب وأعيان يمنحون حكومة من اختاره الملك وفق تلك النتائج ثقتهم ودعمهم.
نريد إذن كما قال جلالة الملك عبدالله الثاني مواطناً فاعلاً، حزباً فاعلاً، مجلس نواب فاعل ومجلس وزراء فاعل. ونريد كذلك نظاماً قائماً على إستقلالية سلطاته ولكنها متفاهمة مع بعضها البعض. ولكل فرد في المجتمع نصيب.
هذه كله انعكس في دستور عام 1952. وعلينا الآن أن نفعله ونضع القوانين التي تضمن تطبيقه بعدالة وفهم بحيث نجعل الأردن أقوى وأمنع، وأكثر استمراراً وأكثر استجابةللمتغيرات حتى يبقى قطاره سائراً على السكة.
الرأي