مرت البارحة ذكرى نكبة فلسطين ، واذا كان ضياع فلسطين ، تحول الى مناسبة عند البعض ، فانه لدى اخرين ، غّم يومي ، يعتاش من وجوه الناس ويبيت في فراشهم.
زرت مُخيمات عديدة في عدة دول عربية ، والفلسطيني الذي يعيش في مخيم ، يرى المشهد بطريقة مختلفة ، وازّقة المخيمات الطينية الضيقة ، وغرف الصفيح ، او الطوب ، وعلاقات الناس في المخيم ، كلها تقول لك ان العيش في مخيم ، أي مخيم ، يجعل احد مشاهد النكبة ، جلياً وبشعا ، لا لبس فيه ابدا ، والعيش في مخيم ، ايضا ، يخلق فلسطينياً مختلفاً ، في حياته ونظرته وهمومه ورغباته.
المخيم ، كان في بدايته ، حفنة من المخيمات التي اقيمت على عجل من اجل استيعاب اللاجئين ، الفارين بدينهم واعراضهم ، على اساس عودتهم بعد ايام ، واذا عدنا لصور المخيمات القديمة ، لوجدنا انها كانت خياما مترامية صغيرة ، وان مئات الالاف قطعوا المسافات مشيا على الاقدام من فلسطين المحتلة عام ثمانية واربعين ، الى غزة والضفة والى كل الدول العربية ، تحت وطأة الذبح وهتك الاعراض والاشاعات.
أغلب هؤلاء عرفوا الخيم ، والحياة الصعبة القاسية ، وكان ان تحولت الخيمة الى غرفة من الصفيح ، في البدايات او غرفة من الطوب ، وفي حالات غرفة قديمة مستأجرة ، في احياء الفقراء في مشرق العرب ، غير ان شبح المخيم ، بقي متوارثا في النفوس ، كدليل على هذه المذبحة التاريخية لشعب تشرد في العالم ، حتى اولئك الجالسين في مغترباتهم الامريكية والاوروبية ، تغفو عيونهم ، وفي ظلالها ملايين الفلسطينيين الذين ينامون في المخيمات.
في غزة وحدها تسعمائة الف لاجئ فلسطيني ، يتوزعون في ثمانية مخيمات ، وقد زرت غزة ذات عام ، واخذني أحدهم الى ثلاثة مخيمات ، جباليا والنصيرات والشاطئ ، وترى كيف ان مثل هؤلاء يعيشون حياة قاسية ومرة وصعبة ، في ظروف لا انسانية ، تترك اثرا حادا حتى على حياتهم الاجتماعية ، فلعنة التشرد والفقد والخسارة ، لا يعرفها الا من نام اهله في خيمة ، او بات احفادهم في غرفة من طوب ، وسقفها من صفيح.
في لبنان ، مثلا ، سبعة مخيمات ومئات الاف اللاجئين ، وازيل مخيم ببطولة نادرة بقصف متواصل ، فلم تبق عمارة ولا شقة ، ولا غرفة صفيح ، قبل اعوام ، ولم يبك العالم على المخيم ، ولو كان هناك قط من "فصيل نادر" تتعرض حياته للموت ، لقامت قيامة العالم لاجله ، وفوق هذا ظلال لمذابح في مخيم صبرا وشاتيلا ، واقتتال في هذا المخيم او ذاك ، ومنع من ممارسة خمس وخمسين مهنة ، وكأن من يعيش في المخيم كائن مكروه ومطرود ومحارب ومنبوذ عربيا ، واسرائيليا على حد سواء ، باعتبار هؤلاء "جذام عابر" على الوجه العربي الجميل.
المخيمات دليل حي على النكبة ، دليل لا يزول ولا تمحى اثاره ، وقيل سابقا ان فكرة اقامة المخيم فكرة جائرة ، لانها تلغي انسانية الانسان ، وتخنق "البشري" في اللاجئ ، وقيل ايضا ان المخيم يجب ان يبقى كدليل على جريمة الاحتلال ، باعتبار ان الاحتلال يخاف من الادلة ، غير ان المشترك بين الرأيين ، هو النتيجة التي لا يملك احد ان يقرر تفاصيلها ، فالعيش في مخيم ، او مقاربة الحياة في مخيم ، او معرفة من يعيش في مخيم ، كلها تقودك الى ذات الاستخلاص ، فالملايين الذين تشردوا لا ينسون فلسطين ، حتى لو اخرجتهم غرف المخيم الى قصور وحياة رغدة ، او ابقتهم كما هم.
العيش في مخيم قصة مختلفة ، وقبل ان يتحدث العالم او العرب ، او منظّرو السلام والمفاوضات ، وغيرهم ، علينا ان نسأل اهل المخيمات في الضفة وغزة والعالم العربي ، عن رأيهم في التنازل عن فلسطين الثمانية والاربعين ، ويريدون اليوم شطب حق العودة ، ودفن الفلسطينيين في غرف الصفيح والمخيمات ، او الشقق الفخمة التي تم استيلادها من داخل خيمة التشرد ، لكنها ما ازاحت المخيم من الذاكرة.
صوت من في المخيمات صوت شرعي ومسموع وحاسم وُيمثل اللاجئين والنازحين ، من ارتفعت بهم الحياة المنعمة ، واولئك الذين ما زالوا على فقرهم وكأنهم في يوم تشردهم الاول.
استفتً "المخيم" وإن افتوك.
mtair@addustour.com.jo
الدستور.