كان عمي سعدي مزارعا كبيرا، يزرع مئات الدونمات من الأراضي، ولديه جيوش جرارة من العمال وفق هيكلية منظمة وإن كانت المسميات تختلف عما في أذهاننا، فهناك مدراء إدارات ورؤساء أقسام ومراقبون ودعم لوجستي، وتعبئة معنوية، وموظفين فئة ثالثة وفئة رابعة، وغرفة عمليات، وهناك حقيقتين يجب أن يعرفهما الجميع الأولى أن عمي سعدي لا يقرأ ولا يكتب، والثانية أن أغلب العمال والموظفين لديه من جنسيات ليست عربية.
المهم، كان حازما منضبطا يبدأ نهاره مع صلاة الفجر وأحيانا قبل ذلك، فينجز أعماله مبكرا وكان عنده من المحرمات أن تطلع الشمس على ولد أو بنت أو زوجة وهو نائم، حيث كانوا "قليلا من الليل ما يهجعون" .
كان يتبع استراتيجية غامضة إذ يعرف كل ما يتبادله العاملون من أحاديث بلغتهم، ويفهم لغة الجسد ويحللها تماما، ويعرف المريض من المتمارض، ما يهمه تحقيق الهدف في نهاية كل موسم والباقي "تفاصيل"، كان يتمتع بذكاء عاطفي مميز، إذ يضبط انفعالاته ولا يسمح للغير أن يخدعه، فقاعدته الرئيسية " لست بالخب ولا الخب يخدعني"، يتبع بل ويطبق كل استراتيجيات القيادة التي تعلمناها، وكان يدير وفق نمط القيادة الموقفية في الغالب، فرغم أنه حاد الطبع لكنه في بعض الحالات إذا ما أحس بنوع من التذمر لدى العاملين وتدني انتاجيتهم فإنه ينخدع لهم، وكان متغافلا في الغالب لا غافلا، ويستخدم اسلوب التحفيز والمكافأة، وفي الغالب التحفيز المعنوي حيث كان يحرص على أن لا يكلف الخزينة أية أعباء اضافية، وكان ما يميز حسه القيادي أنه يعطي المواقع القيادية للاشخاص الأقل كفاءة في الانتاج وممن لديهم نزعة قيادية، حتى لا يخسر شخصا منتجا فكان يؤمن رحمه الله أن "كل إنسان ميسر لما خلق له" ويؤمن كذلك بأن القيادة مهارة وفي الغالب فطرية تولد مع الشخص فيضع الشخص المناسب في المكان المناسب، مع أن البعض كان يأخذ عليه اسلوب المركزية إذ لا يفوض أي من سلطاته لأحد، لأسباب عديدة منها انعدام الثقة، ومنها انه يتابع كل صغيرة وكبيرة ولهذا كان يحقق في نهاية كل عام نتائج إيجابية وأرباح وفق الهدف المرسوم، كان يكره التسويف والمماطلة ولا مجاملات في قاموسه على حساب العمل، لهذا لم يكن لديه دائرة للموارد البشرية ولا مندوبا لديوان المحاسبة ولا قسما للشكاوى والمظالم فالقيادة ميدانية والقرارات فورية والأعمال تنجز بشكلها الصحيح فلا داعي لرقابة وتدقيق لاحق، ولم يرد في تاريخ عمي "سعدي" أن أحال أية قضية إلى النائب العام أو إلى هيئة النزاهة ومكافحة الفساد إنفاذا لقاعدته الشهيرة "لا مكان بيننا لفاسد"،
ونحن سواء اتفقنا مع استراتيجيته ام اختلفنا معها الا انها كانت تحقق الهدف، وتستثمر الموارد، وتحافظ على المال، وتمنع الهدر، بل وكان مصنعا للقادة.
المهم، أذكر هذا النمط القيادي الفذ وهذه المدرسة الإدارية وهذه الاكاديمية المتميزة، لكثير ممن يتبوأون مواقع المسؤولية العامة ممن درسوا في أعرق الجامعات الغربية وجلهم على حساب الدولة، بل وشاركوا في العديد من المؤتمرات الدولية، وحضروا وشاركوا في العديد من الدورات التدريبية الدولية في بلاد الغرب، ويأتي أحدهم يتغنى بأساليب إدارة الغرب وحسن انضباطهم وفرط حرصهم، ومدى محافظتهم على مقدرات بلادهم، ودرجة ولائهم لمؤسساتهم وأوطانهم ومواطنيهم، بل ويشبعنا حديثا عن تميزه هو في تلك الدورات وكيف أنه حاز على إعجاب الجميع ومن مختلف البلدان، وأنه قدم عرضا رائعا أو مقترحا تم الأخذ به، لكنه للاسف عندما يتولى موقع المسؤولية عندنا يدير المؤسسة بطريقة "الفزعة" أو أن السكرتيرة أو مدير المكتب أو الحاشية يقومون بثلاثة أرباع الإدارة، والنتائج فساد وترهل وخسائر وظلم وإحباط وتفكك وتذمر وتراجع، فالرجل المناسب لا يعرف المكان المناسب ولا يصل اليه، والمصلحة العامة ضحك على الذقون، والورقة التي تحتاج إلى توقيع عاجل تصبح ملفا، وتقييم الأداء ترضيات وأخذ للخواطر.
فلو أداروها وفق استراتيجية عمي "سعدي" أو تعلموا على يديه أو انتسبوا لأكاديميته لكان خيرا لهم وأعظم أثرا.