عمان - ككرة الثلج, يلتف أردنيون من مختلف الأصول والمنابت حول مبادرة رئيس الوزراء الأسبق أحمد عبيدات وسط اتساع دائرة التململ الشعبي حيال ضبابية الموقف الرسمي أمام حالة الاستقطاب والفرز المجتمعي, الذي يتعمق في غياب أفق قيام دولة فلسطينية مستقلة غربي النهر, تراجع دولة المؤسسات وتدوير خطط الإصلاحات الداخلية بعيدا عن الشفافية.
أزيد من 3500 أردني انضم حتى الآن إلى تلك المبادرة, بمن فيهم مسؤولون في الحكم, لكن من وراء الستار; وكذلك عشرات المسؤولين السابقين, حزبيين ونقابيين. يلتقي هؤلاء حول عدم الارتياح للدرك الذي انحدر إليه الوضع في الساحة الداخلية من شقاق وانقسامات, تنذر بهزّة قد تطال السلم المجتمعي وسط إقليم مضطرب. التقط مؤيدو آراء "أبو ثامر" حراك هذا الرجل على أمل بناء تيار عريض مستدام يعكس آراء غالبية صامتة حائرة في قرع ناقوس الخطر.
كلام عبيدات عن تنظيم العلاقة الأردنية-الفلسطينية من وحي "الفصل السابع" من الميثاق الوطني (1990) جاء في وقته. وكذلك دعوته إلى مأسسة إصلاح سياسي داخلي, بدءا بقانون انتخاب "رشيد", الذي يصفه بأنه قاطرة الإصلاحات اللازمة لتحقيق توازن بين السلطات ووضع حد للمزاجية, التردد والتفرد في آلية اتخاذ القرار.
تنبع أهمية طروحات مدير المخابرات الأسبق, الذي تحول إلى خندق المعارضة, من إرث رئاسته للجنة الميثاق الوطني التي صاغت وثيقة بنت قنطرة تصالح بين الحكم والقوى السياسية بعد هبّة نيسان (1989), التي توجّت عقودا من الحكم العرفي وفجوة ثقة بين الطرفين. مذ ذاك سارت الأمور بين الحكم والشعب بسلاسة وعبر الجميع عنق الزجاجة حتى ميلاد معاهدة السلام عام ,1994 التي شكلّت نقطة انعطاف صوب تراجع تدريجي في برامج الإصلاح والحريات العامّة.
اليوم, تتحرك شخصية متصالحة مع نفسها ومقبولة لدى غالبية الأطراف في مسعى لاحتواء الاحتقان المتزايد ونسج مصالحة ملّحة بين مجتمع منقسم. فهل تنجح في إدامة الحراك العفوي صوب تحصين البلاد ضد الفتنة? الأمل كبير في الاستدامة بفعل عدة عوامل: توقيتها, مناقب صاحبها ونوعية مؤازريه الآخذين بالتزايد يوما بعد يوم. اللافت أن تسعة من كل عشرة موقعين على البيان من عنصر الشباب, والمفارقة أن من بين المؤازرين سياسيين غير تقليديين لا يتفقون مع نهج عبيدات, من أمثال رئيس الوزراء الأسبق عبد الكريم الكباريتي (1996-1997) ونائب رئيس الوزراء الأسبق مروان المعشر, فضلا عن إسلاميين, قوميين, وطنيين, شيوعيين ورجال اعمال بارزين.
إضافة إلى القابه السابقة من رئاسة الحكومة إلى إدارة الاستخبارات العامة, كان عبيدات رئيس مجلس إدارة المركز الوطني لحقوق الإنسان, الذي أقيل منه أواخر 2008 لأنه شارك في التوقيع على بيان وصفته السلطات بأنه "سياسي" ضمن 150 شخصية طالبت بتسريع الإصلاحات واحترام حقوق الإنسان. والأهم أن هذا الرجل قومي الهوى حتى النخاع مخلص لوطنه بقدر عشقه لفلسطين, لم تلاحقه شبهات الفساد, كما أن له قاعدة شعبية آخذة في الاتساع بين الأردنيين - من شرق النهر وغربه.
الدعوة "العبيداتيه" إلى العودة للميثاق, يجب أن تكون عنوان المرحلة المقبلة بحثا عن مصالحة داخلية بعد أن وصل الانشطار الأفقي والعمودي إلى مرحلة خطيرة تهدد بضرب أسس دولة بنتها سواعد مشتركة على مدى القرن الماضي.
من الخطر تجاهل الشرخ المتزايد في المجتمع, وتنامي شعور لدى الأردنيين بأن الوضع الفلسطيني المأزوم غربي النهر بات يهدد جوانب الحياة السياسية الأردنية. يتعمق القلق في ضوء التباس موقف السلطة الفلسطينية, فشلها في بناء دولة مستقلة وأيضا مواقف سلبية لأنظمة عربية قد تلامس حدود التواطؤ. يتوازى مع ذلك, ارتفاع أصوات أردنيين من أصول فلسطينية يتمتعون بكافة حقوق المواطنة تنادي بتقاسم الكعكة السياسية والمنافع الاقتصادية, ما أثار مخاوف شرق أردنيين يربطون بين هذه الطروحات مع مؤامرات إسرائيلية معلنة وأفكار أمريكية كامنة لتحويل المملكة إلى دولة بديلة عن فلسطين.
في المقابل بات غالبية الفلسطينيين الأردنيين, بحسب ساسة مستقلين, يشعرون بانتمائهم للبلد التي عاشوا فيها لعقود ومقتنعين بأن وضعهم هنا ممتاز على الأصعدة كافة, كما تراجعت لدى غالبية الأجيال اللاحقة مشاعر السلبية والعداء تجاه الأردن التي تولدت عقب أحداث أيلول .1970 هذا التحول يخيف نصف المجتمع الآخر. وهنا المفارقة المضحكة-المؤلمة. الأردنيون يراقبون حصتهم في الكعكة السياسية ويشعرون بأنها تتضاءل في حال وقوع توطين سياسي أو طغى الخيار الأردني, بسبب غياب حلول للقضية الفلسطينية. في هذه الحالة, ستزيد الكثافة السكانية الفلسطينية وتتراجع حصة المكوّن الشرق أردني.
في غمرة المخاوف والطروحات المضادة وقعت سلسلة أحداث عنف ومواجهات عشائرية أو مع الأمن في عدّة مناطق, ما يعكس حجم الاحتقان لدى شريحة واسعة من المجتمع.
مبادرة عبيدات تحتاج الآن إلى دعم تيار المجتمع العريض بما في ذلك الحكومة والسلطة التشريعية, الإعلام الرسمي وشبه الرسمي, النائم حاليا, والقوى السياسية. وقد تشكّل انطلاقة لتحقيق مصالحة داخلية وردم الهوة تدريجيا على وقع إصلاح سياسي حقيقي وبناء دولة المؤسسات والقانون لضمان مستقبل أفضل للوطن, فالوضع الحالي غير قابل للاستمرار والانحياز للمصالح الشخصية والمكاسب الضيّقة ستطيح بمكتسبات الجميع دون استثناء. ويفترض أن يقف الأردنيون من مختلف المنابت والأصول ضد مشروع الوطن البديل, بالقدر الذي يدينون بالولاء والانتماء لهذا الوطن في ظل الدستور في ظل الهاشميين.
فيا حبذا لو اتخذت المراجع العليا موقفا واضحا وقويا حيال هذا الموضوع الشائك الذي يهز المجتمع بدلا من السكوت. وقد يوفر مجلس الأعيان, ذراع الملك ورمز ما تبقىّ من السلطة التشريعية, منبرا لتخريجة مناسبة باتجاه مأسسة مبادرة وطنية شاملة صوب توحيد الاردنيين. وقد يكون من المفيد اجتماع الأعيان إلى الملك للحديث حول قدسية الوحدة الوطنية, التحذير من الخطوط الحمر وبعث رسالة قوية تهزّ مختلف فئات الدولة.
بعض المسؤولين يتحدثون عن تشكيل لجنة ملكية من وحي خطاب ملكي يضع النقاط على الحروف, ويؤسس لبناء توافق وطني حول المادة السابعة التي استحضرها عبيدات.
على أن الغالبية ترى أن في اللجان "مقتلا للمشاريع والأفكار" حال لجنة الميثاق الوطني وعشرات المبادرات التي انطلقت خلال العقد الماضي. وبالتالي لا بد من مواصلة الزخم الشعبي-النخبوي لتحويل مبادرة عبيدات المنشورة على موقع الكتروني أطلق قبل أيام إلى منبر حوار ثري بالفكر السياسي والتشبيك المجتمعي بدل الملاسنات العقيمة المنتشرة على المواقع الالكترونية.
وثمّة خوف من انزلاق الأمور أكثر, إن ظلت الحكومة صامتة ولجأت إلى أسلوب تكميم الأفواه القديم ومطاردة المعارضة ومنع الصحافة من تغطية الحقائق إلا في سياق ولون واحد, بهدف خلق حال من الاستسلام الشعبي والقبول بما هو أسوأ. مثل هذا التحرك قصير النظر سيزيد رخاوة التربة الوطنية, فتتحول إلى أرضية خصبة للأعداء والمتربصين وللعصبيات بأشكالها وأنواعها.
هذه المعادلة ستقودنا إلى صيف ساخن يعقبه خريف غضب. فهناك ملامح رغبة إسرائيلية جامحة للعبث بأوضاعنا الداخلية ورفع منسوب القلق والخوف المتبادل للهروب من مشاكلها الداخلية ومن استحقاقات ما تبقّى من عملية السلام. فهي تسعى إلى نقل معركة الديمغرافية التي تهددها إلى خارج الحدود صوب دولة مجاورة فيها أعلى كثافة سكانية فلسطينية. وليس من المستبعد تواطؤ أنظمة عربية مؤثرة مع حالة استسلام الرئيس الفلسطيني المأزوم محمود عباس.
في المحصلة, سياقات الجدل الداخلي تكبر ككرة ثلج وقد تتحول إلى أزمة وطنية وفوضى خلاقة لا تفيد. الميثاق الوطني حقق مصالحة بين النظام والمعارضة السياسية قبل عقدين. ربما تفتح مبادرة الباشا عبيدات الطريق أمام تأطير قطاع واسع من الأردنيين والدفع صوب انجاز ميثاق وحدة وطنية لوأد الطروحات العنصرية التي ينادي بها من يسعى لجر التيار العريض الوحدوي الصامت نحو شق الوحدة الوطنية المقدسة عوضا عن توحيد الجبهة من خلال مشروع إصلاح سياسي وخلق رأي عام محصن أمام المؤامرة الصهيونية التي لن تنجح إلا في حال التفرقة والتشرذم.
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
العرب اليوم.