مسار قلعة الشوبك "شماخ والبيضا" (صور)
عبدالرحيم العرجان
24-04-2021 01:44 PM
وجه جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين حفظه الله ورعاه في زيارة له إلى الشوبك إلى ضرورة ربط المنطقة بالمثلث الذهبي لإثراء تجربة السائح وإطالة إقامته، والاستفادة من برنامج "انهض" لدعم مشاريع المجتمع المحلي.
حيث أن موقعها مميز فهي تقع بين محمية ضانا وعاصمة الأنباط وتشرف على وادي عربة، أما إرثها التاريخيّ والتراثيّ والتنوع الطبيعي والبيئي يجعل منها مقصداً مهماً لعشاق المسير والترحال في ضوء طموح أبنائها.
مع الصباح الباكر كنا أول من يدخل القلعة المتربعة على جبل مخروطي شاهق من جبال الشراة بمركز متوسط لطريق الحج القديم والتجارة بين مصر وبلاد الشام، وقد بنيت هذه القلعة للسيطرة والإنذار المبكر، من الملك بلدوين إبان الحروب الصليبية 1115م؛ ليسميها بالجبل الملوكي "مونتريال" لعظمتها ثم احتلها القائد صلاح الدين الايوبي عام 1187م موكلاً إدارتها لأخيه، ولكن لسوء الحظ أُهملت بعد سيطرة الدولة العثمانية 1516 حيث تم هدم إجزاء منها من قبل ابراهيم باشا 1840م، بعدما جدد بنائها الملك المنصور حسام الدين ورممها الصالح نجم الدين واعتنى بها الظاهر بيبرس كما وجد في نقوش جدرانها الظاهرة للعيان، بما فيها من مقومات عمرانية وقدرة على صمود لفترة طويلة من الحصار.
وقفنا على أسوارها العالية المنيعة، محددين مسارنا بشعور قادة إعادتهم لزمان الأمجاد، للمرور ببساتين المنصورة والجاية وعين مائها وبساتين شماخ، فغابات الهيشة عبر جبال الشرارة، وكان المسار متوسط الصعوبة بطول 32كم يتنهي مع المساء وصولاً للبيضا.
عدنا لمركز الزوار عبر الطريق الوحيد الملتف حول الجبل ومنه سلكنا الدرب الترابي الحاد المقابل من الجهة الجنوبية، مشرفين على القلعة مستدركين مدى مناعتها من هناك، وأي قوة عظيمة تحتاج للسيطرة عليها وحصارها، وذكر ذلك جله من الرحالة العرب مثل ياقوت الحموي والنتوفي وابن شداد وأبو الفداء وصاحب المراصد وغيرهم الكثير ممن أتى من الغرب لدراسة تاريخنا والبحث فيه.
كان مسيرنا ورفيقتنا السحاب الملامس للبيادر، معلنة خضرتها استبشاراً بمحصول قمح وفير، لنصل إلى بلدة الجهير و مطلها على وادي عربة وجبالها بين اظهار واخفاء اشعة الشمس لوجود السحب، بعد أن كان بحر بالزمان الجيولوجي الأول وطبقته الكلسية من عصر السنوبانيان.
إنه مطل يستحق الوقوف عليه والتأمل بالأفق الممتدة وأخذ استراحة بعد قطع ثلث المسافة بوجود فنجان قهوة يعيد الدفء وجرعة الانتعاش.
وعند هذا المطل نلتقي مع درب الأردن، وهو المسار الممتد من أم قيس حتى خليج العقبة، ضمن مرحلة ضانا البتراء بعد عبور نقب شديد نحو موقعنا، استكملنا طريقنا مروراً بأشجار البر من عرعر وبطم والسرو والصنوبر التي ضمن أراضي مملكة أدوم وما بعدهم، تاركين تحصينات وثغور على سفوح الجبال والمساطب، والتي تشاركوا بزراعتها أجدادنا العرب الانباط مع جيرانهم. وصلنا إلى بلدة شماخ حيث ممتد تاريخها إلى ثلاثة آلاف عام، وفيها بداية نسج الثياب بلونيها الأبيض والأحمر لتكون بداية أصل الشماغ ولباس العرب وأهل عمون وباشان حتى تطور مع الزمن، فشماخ ذكرت لدى السومرين "آش ماخ" اي غطاء الرأس ومنه استبدلت الخاء بالعين نسبة للشموخ والآباء كما أورده الباحثين و يعتقد.
جلنا بالبلدة الحصينة المسيطرة منازلها على منافذها، وما فيها من بيوت أجداد متجاورة، تركوها الأحفاد على حالها من مضافات وغرف بنيت حول فناء واحد لكل عائلة، باستلهام الطبيعة وذكائها التي قاومت الزمان من حجارة وتبن وطين وسقوف مستوية حملت على قناطر وجذوع العرعر والقصيب بجدران، لم يعرف قاطنيها برودة الشتاء أو حر الصيف لسماكتها وتصميم بنائها، حتى "لكوار" مخازن حفظ القمح ما زالت كما هي، وبعضٌ منها في فنائة حجار الرحى المنزلية، ويمكن إعادة بنائها وترميمها من نفس طبيعتها لتكون بيوت استضافة بمكان قل نظيره ولا يحتاج سوى للطموح والأمل بعيد النظرة، لإضافة منتج جديد لتشغيل أبناء المكان بالشراكة مع مستثمرين أو تعاون جهات مانحة وإعادة الحياة آلية قبل أن يزداد خرابه وتتلاشى مكوناته يوماً بعد يوم، بعد أن كانت مشتى لأهالي القرى المجاورة وبالذات بير خداد القريبة ذات البرد القارص وصاحبة التاريخ المشترك المشرف.
استكملنا طريقنا لعين الماء، الممتد مجراه لري بساتين الرمان، والصبر، والتفاح حتى مسقط الشلال، فكانت استراحتنا قربه منتعشين بمائه، ومستظلين بشجرة تين، حيث كان الراعي وأجراس غنمه تطربنا، ليحدثنا عن الكهوف المحيطة وكيف كانت مسكونة لعهد قريب وملجأ لأصحاب بيوت الشعر في فصل الشتاء القارص، عندما يهب الريح وتشتد العواصف، والمعروفة باسماء أصحابها وكما ذكر ذلك الرحالة السويدي بيركهارت بمذكراته 1812.
وخلال طريقٍ ترابية وتشكيلات صخرية، عبرنا تلال كانت يوماً موطن للفهد وما تبقى بين الكهوف وأعلى الجبال من ماعز بري وثعالب تشاهد أحيانا وأعشاش حجل وحمام وجوارح، وما استجد الحياة من نبات الربيع حتى وصلنا لمطل الهيشة وإشرافها على التكوينات الوردية لجبال البتراء والبيضا لندخل مرحلة أخرى من سحر الجيولوجيا وذكاء الطبيعة، المدخل الساحر لمدينة الرقيم الذي لا تنفك وأنت تتامل تفاصيله مع بداية الغروب وتفرعات دروب القوافل، متشوقا لنقطة النهاية وما بعدها من واجهات ومعابد ومعاصر نبيذ العنب الأبيض والذي قد تكون نسبة البيضا بتسميتها إليه أو لبياض صخورها ووجود بشري بدءً من العصور الحجرية، لنصل مخيمنا المحلي الصديق للبيئة أسفل الوادي بين معالم نبطية وقباب صخرية وحفاوة استقبال وحديث امتد حتى الساعات الأولى من الفجر قرب موقد النار، ومن أهل المنطقة تعرف جل أسرارها فقاموا بتسمية معالمها من عيون وجبال وخرب فذكروا جبل بعجة وخربته والسد الأحمر والنعيرة والمعقر وفردة، وعين مطير وحزير وبطمة والحمر، وكان لهم لعهد قريب ميقات بشهر أيلول لزيارة مقام هارون من الأربعاء حتى الجمعة للدعاء وطلب كلاً حسب حاجته وما يرافقه من إضاءة شموع وحرق البخور وذبح النذور.