فوجئ المشاهد العربي بما عرضته الفضائيات العربية من صور بثها تلفزيون الأقصى التابع لحركة حماس وتظهر مسلحين وهم يقتادون عناصر من حركة فتح وهم يخرجون من مقر الأمن الوطني في غزة، بعد أن سيطر مقاتلو حماس عليه. وتظهر الصورة هؤلاء الشباب وصدورهم عارية وأحدهم يرتدي سروالا داخلياّ فقط! صورة تحمل معها معاني القهر والإذلال وعدم الإحساس بالمسؤولية، ليس فقط من قبل الذين قاموا بهذا الفعل الشنيع ليقتادوا اخوتهم بهذه الصورة المذلة.. بل من قبل المسؤولين الإعلاميين في حركة حماس الذين سمحوا بنقل هذا المشهد وبثه في تلفزيون الأقصى.
ألم يلحظ هؤلاء الإعلاميون (النبهاء!) وجه الشبه بين هذا المشهد وبين المشهد الذي نقل لنا من فترة، لا تنمحي معها الذاكرة، ما فعله الإسرائيليون بالشرطة الفلسطينية حينما اقتحموا سجن أريحا واقتادوا الحرس الفلسطيني بملابسهم الداخلية؟
هل يستحضرون ماذا كانت ردة فعل المشاهد العربي لذلك المشهد الذي نفذه أعداؤنا بإخوانهم؟ هل يستذكرون مدى غضب الشارع العربي والفلسطيني على تلك الصور المذلة التي أظهرت رجال الشرطة الفلسطينية يقودهم جنود الاحتلال الاسرائيلي وهم بملابسهم الداخلية؟
أي ألم اعتصر أفئدة المشاهدين حينئذ؟! وأي ألم يعتصر فؤاد المشاهد العربي الذي يشاهد أن الأخ يفعل بأخيه ما فعله ويفعله الأعداء بهم؟ أي ألم يحيق بالانسان العربي الذي يشاهد مسلحي حماس وهم يقتادون أشقاءهم في فتح بهذه الطريقة المهينة والتي تعبر عن روح ليس فيها ما يسعف المرء إلا قول الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة..
ما يجري الآن لا يمكن تصوره إعدامات بدم بارد، ونهب للبيوت وللدوائر الحكومية، أفعال غريبة عن خلق المقاومين، هل هناك منطق يحكم ما يجري في غزة بين الطرفين فتح وحماس؟ هل هناك عقلاء يمكن أن يعيدوا الوضع الى طبيعته؟ أم ليس هناك سوى أولئك الذين يتعطشون للسلطة ولا تهمهم مصلحة الوطن ولا صورة الفلسطيني أو العربي في العالم.
إن ما جرى وما يجري من عنف واغتيالات وإعدامات بين الطرفين - على الرغم من الاتفاقات بينهما- يؤكد أن القيادة الحقيقية والديمقراطية غير موجودة لدى الجانبين.
لقد سئم الفلسطينيون والعرب هذا النمط من القيادات التي تتناحر على السلطة على حساب دماء الشعب وقوته وعلى حساب الأرض الفلسطينية، وعلى حساب سمعة الشعب الفلسطيني الذي ناضل عقوداَ طويلة من أجل تحرير أرضه، وفرض القضية الفلسطينية على الرأي العالمي كقضية عادلة، ودفع مقابل ذلك عشرات الآلاف من الشهداء. لكن ما يجري الآن هو انتقاص من حق الشهداء علينا، وينقل القضية إلى مستوى يسيء إلى عظمة تضحية الشعب الفلسطيني وتضحية عشرات الآلاف من الأسرى الذين يقبعون في سجون الاحتلال، ويكرس صورة العرب لدى الغرب بأنهم مجرد ارهابيين متعطشين للسلطة يمارسون القتل المجاني لأبناء شعبهم.
وتصبح الأصوات المطالبة باعتبار ما يجري في غزة الآن في عداد جرائم الحرب يستحق من اقترفها المحاكمة أصواتا مقبولة عالميا، وخصوصاَ أن هذا سيتيح فرصة لتسوية حسابات سياسية ستكون اسرائيل هي المستفيد الأول والأخير منها.
إن المشاهد التي بثها تلفزيون الأقصى كانت مثالاَ للرؤية العمياء التي لا تدرك دور الصورة في التأثير على المشاهد وجهلا بقوة تأثير الإعلام في الرأي العام.
وما شاهده الإنسان العربي على شاشات الفضائيات ليس بطولة لحماس – أو لغيرها- يمكن أن تستعرضها وسائل الإعلام لتظهر أبناء وطنها وهم يرفعون أيديهم فوق رؤوسهم. يا للعار كيف يقبلون لإخوتهم أن يمارسوا رمزاَ من رموز الاستسلام؟!
لقد صفق كل العرب لانتصار الديمقراطية في فلسطين عندما نجحت حماس. وعلى الرغم من اختلاف رؤى الناس يميناَ أو يساراَ قوميين أو اسلاميين أو يساريين رفعوا أيديهم تحية للديمقراطية في فلسطين، ولكن المأزق الذي نشأ عن وجود الديمقراطية كان مأزقاّ أكبر من عدم وجودها. إذ نقلت الديمقراطية حماس إلى السلطة لتمارسها في ظل احتلال وهي تطالب مقاومة الاحتلال، والديمقراطية جعلت حماس تقود حكومة لا تمتلك أي إرادة في ظل الاحتلال، وسلطتها لم تستطع أن توفر لرئيس وزرائها حرية السفر خارج غزة من دون تصريح من اسرائيل، ومع ذلك ظل برنامجها يطرح شعار المقاومة، وحين يخرج رئيس الوزراء اسماعيل هنية من غزة ويريد العودة إلى وطنه شاهد الناس بمرارة صورته وهو يجلس على الرصيف ينتظر إذناّ من العدو للدخول إلى وطنه؟!
أي سلطة هذه التي تتمسك بها حركة حماس إذن وهي أسيرة لإرادة الاحتلال والمقاطعة من دول الغرب وأميركا بل والعرب؟ ولماذا لم تبق حماس حركة مقاومة ومعارضة لتنفذ برنامج المقاومة الذي تطرحه؟ أما كان ذلك سيوفر على الشعب الفلسطيني كثيراّ من المعاناة ومئات الضحايا؟
كم خسر الفلسطينيون من جراء الصراع الآن؟ كم خسرت فتح وحماس من جراء الصراع على السلطة الآن؟
أقول إن ما جرى خلال الأسابيع الأخيرة لم يترك مجالاّ للإنسان العربي سوى أن يقول ارحلوا عنا لأن فتح لم تعد فتح التي نعرفها، ولأن حماس ليست حماس المقاومة كما كانت تطرح قيادتها التاريخية. ارحلوا لقد سئم العرب البيانات التي تقول أن الاقتتال بين الأخوة خط أحمر، لأن الدماء التي سالت حمراء، أليس كذلك؟ ولأن العرب سئموا البيانات التي تعلن عن الاتفاقيات بينكم ولكن "الزعران" يقومون باختراقها دون أن يكون هناك من يحاسبهم.
الفلتان الأمني واللقمة المغموسة بالدم والأطفال الشهداء والناس الأبرياء الذين استشهدوا برصاص الصراع على السلطة يقولون لكم ارحلوا واتركوا للشعب الفلسطيني خياره، لتكون للمؤسسات دورها في قيادته.
أما فرض حكومة الطوارئ فلست مقتنعاّ بأنه سيحل المشكلة بل سيعقدها، وقد يقود إلى المزيد من الاقتتال ولا نعرف عقباه. إن حماس أوقعت نفسها في ورطة كبيرة وعلى الرغم من شعبيتها التي كانت، وحققت بها فوزاّ في الانتخابات، إلا أن هذه الشعبية كما أرى قد باتت تسير على خط النهاية، حيث أن ما اقترفه عناصرها خلال الأيام الماضية أثر وسيؤثر على مستقبلها بل سيعجل في نهاية دورها ودور اتجاهها السياسي في المنطقة بل سيقود هذا إلى أفوله.
اللهم هب قيادات الشعب الفلسطيني الحكمة ولتكن فلسطين فوق تنظيماتهم ولتكن دماء الفلسطينين فوق مصالحهم الشخصية فوق كراسيهم التي يتشبثون بها، واللهم اجعلهم لا يخيبون آمال أمتهم العربية والاسلامية التي تنتظر تحرير القدس لا تحرير غزة.
* الكاتب نائب رئيس جامعة فيلادلفيا