من وحي المئوية (9) .. الأمن الغذائي الأردني
د. جواد العناني
11-04-2021 02:01 AM
في مقدمة هذا المقال لا بد لي أن أتقدم بالشكر والعرفان للدكتور يوسف قسوس الذي يزودني بمعلومات دقيقة إما مصوباً أو مضيفاً لما ذكرته من حقائق تاريخية. والرجل يتمتع لا شك بذاكرة تاريخية متميزة في السياسة الأردنية وسياسيّيها. ولأسباب مماثلة أشكر زميلي المهندس عدنان بشناق.
بعد هذه المقدمة نعود إلى موضوعنا. كنت أُدرِّس طلابي في الجامعة الأردنية عام 1975 مادة التنمية الاقتصادية. وفِي كل مرة كنت أبدأ المحاضرة بسؤال يتعلق بالاقتصاد الأردني، أو أطلب من أحد الطلاب أن يسألني سؤالاً، وذات مرة طرحت عليهم السؤال التالي» كيف أثر ماركو بولو (Marco Polo) الرحالة الايطالي الشهير الذي سافر في القرن الثالث عشر من مدينة » البندقية» إلى الصين، وتمكن من الدخول إلى قصر البلاط الإمبراطوري، ويصبح أنيساً وجليساً للإمبراطور آنذاك واسمه » كبلاي خان"؟، فيحتار الطلبة في السؤال، وكيف يساهم هذا الرَّحالة في الاقتصاد الاردني؟.
فقلت لهم يشاع أن «ماركو بولو» قد جلب معه من الصين فكرة المعكرونة أو ما يسميه الطليان » الباستا» «Pasta» بأنواعها وأشكالها المختلفة. ولكن الباستا أو المعكرونة الإيطالية لا تُصنع من الأرز كما هو الحال في الصين بل من القمح القاسي.
ونحن في الأردن كنّا نعتمد على زراعة الحبوب خاصة القمح القاسي المسمى بقمح درهام (Durham). ولذلك كان التجار من فلسطين وسوريا ولبنان يجلبون في موسم الحصاد سلعهم من البواريد والرصاص والحَبَر وسروج الخيل، والقنابيز والشماغات لكي يبيعوها في إمارة الشرق العربي ويشترون بالمقابل الحبوب ويشحنون القمح إلى إيطاليا لصنع المعكرونة التي جلبها ماركو بولو من الصين إلى إيطاليا.
وقد لَفَتَ نظري السيد فارس حموده أن البندورة التي عرفها العالم من الولايات المتحدة والقارة الأمريكية، كان الرحالة الأوروبيون من الإيطاليين والإسبان هم من جلبوها مَعَهُم إلى إيطاليا حتى أصبحت المكون الأساسي لصحون الباستا الشهية. ونحن في الأردن أخذنا بذور البندورة وصرنا ننتجها بكثرة خاصةً في الأغوار.
والزيتون الذي عُرِف في بلداننا العربية. وورد ذكره في القرآن الكريم، أخذه الطليان منا وزرعوه. والأهم من ذلك كله، أن جزيرة صقلية كانت من أغنى المناطق بالزيتون في إيطاليا. وكذلك في منطقة الأندلس باسبانيا. وكلا من صقلية والأندلس مكثتا تحت حكم العرب لقرون ثلاثة ونيف في صقلية، وأكثر من سبعة قرون في الأندلس، ويسمى الزيتون في اسبانيا «زيتونا».
وقس على ذلك العنب الذي استخدمه الرومان والعرب في صناعة الخمور ما عدا أهل الخليل الذي صنعوا منه العنطبيخ والملبن والزبيب والدبس. وهنالك أمثلة كثيرة.
وكم استمعت إلى أصحابي ومعارفي الكبار في السن كيف كانت البيوت في الأردن مصانع غذائية. فالبندورة، والزبيب، والقطين، كانت تُجفف بإعداد «المسطاح» أو الأرض المبسوطة النظيفة، حيث تقطع الفواكة وتترك تحت الشمس لكي تُجفف، وتتحول بعدها من عنب إلى زبيب، ومن بندورة إلى بندورة مجففة، ومن تين إلى قطين.
وأتذكر صناعة المكابيس المنزلية والمخللات. لقد كانت أمي تُخلل كل شيء متاح. وهنالك سلع متداولة معروفة كانت تُصنع في معظم البيوت مثل الزيتون المكبوس سواء أخضر كان لونه أم أسود أم كحلي، واللفت الذي لا بد أن يُضاف إليه الشمندر لكي يصبح أحمر شهي المنظر، وحتى ورق الملفوف والخيار، والفقوس، والباذنجان المخلل أو المكدوس المحشي بالجوز.
وبالطبع ازدهرت في معامل البيوت الغذائية صناعة التطلي خاصة المشمش، والتفاح، والتوت، والسَفَرْجل والعنب. أما أهل المدن فكانوا يفوقون أهل الريف في استخدام القرع، والتين، والكُمثرى، والبرقوق، والكرز.
أضف إلى هذا صناعة اللبن الجميد، والسَّمْن البلدي، من حليب النعاج والشياه والبقر. وهنالك بالطبع اللحم المقدد المجفف سواء من الحيوانات أو من الطيور الداجنة.
وبالطبع، لما كان عدد السكان قليلاً، وأقام الناس في بيوت مُشيّدة على أرض واسعة وُجِدْت » حاكورة» بجانب المنزل، فإنها كانت تزرع موسمياً بالمحاصيل. وكنت تجد في الحاكورة أشجار مثمرة تتنوع حسب الموقع الجغرافي ونوعية التربة. فهنالك من زرع الزيتون، أو الأسكدنيا (أسكادينيا)، أو الليمون، أو العنب، أو التين، أو الكرز، أو التفاح والمشمش. هذا من صنف الفواكة. أما الأرض فكانت تُزرع بندورة، وخياراً، وفقوساً، وشماماً، وبطيخاً، وقرعاً، وكوسا، ويقطيناً، وحتى البامية، والفاصوليا. هذا عدا عن البصل والفجل والبقدونس والنعناع والكزبرة.
وكان للنباتات البرية نصيب من ذلك. فقد كنّا نلقِّط البَقْلَة، والخبيزة، والهندبة، وأبو صوي، والشيح، والبلبوس، ونستلذ بأكله دون غسله، أو نأخذه معنا للبيت لكي يُطبخ. وقد جمع الناس هذه الحشائش والنباتات الطبية مثل الميرميّة، والبابونج، والزعتر، لكي نستعملها مع الشاي أو دواء لوجع البطن والرأس، أو لعمل الفطائر.
لم يعرف الناس المطاعم، بل كانت السيدات يعددن الطعام في البيوت، وإذا كانت هنالك وليمة لعدد كبير من المدعوين قام الرجال بطبخها كالمنسف مثلاً، أو المكمورة، أو الهفيت، أو إعداد الشواء والكباب.
وربى الناس الدجاج والحمام بهدف تنويع الطعام، من لحم وبيض وخزّن الناس في بيوتهم «المونة» مثل القمح، والطحين، والعدس، والحمص في «الخابيات» التي تصنع من الطين والقش حفاظاً على الطعام لمدة طويلة بعد الموسم، ويستطيع المرء أن يستطرد في ذكر كل هذه الأمور. ولكن المهم، أن هذه الصناعات لم تكن تحسب ضمن الناتج المحلي الأجمالي للدولة، لأنها لم تكن سلعاً متداولة في الأسواق، وليس لها سعر. ولكن لو وضع عليها سعر، وعُرِضت في الأسواق لصارت جزءاً من الإحصاءات الرسمية، ولزاد الانتاج رقمياً.
ولذلك، عملت الغالبية العظمى من الناس في قطاع الزراعة، واعتمدت في تأمين غذائها على نفسها، حتى في شهر رمضان حيث يتغير » المنيو أو قائمة الطعام» إلى الشوربة، والسلطة والطبيخ والقطايف وقمر الدين وشراب السوس والتمر هندي. ولَم يشتر الناس من هذه السلع من السوق إلا اذا أُضطروا إلى ذلك. وإن لم تتوفر القطايف، صنعوا في البيت العوامة، وكرابيج حلب، وزنود الست وأصابع السيدة زينب.
وإذا اقترب العيد، تحول البيت إلى خلية لصناعة المعمول، وارسال الصواني إلى فرن «أبو فيصل» واشتغل الأولاد في الأسرة بحمل الصواني إلى الفران مشفوعين بتوصية أمهم وتحذيرها من الوقوع حتى لا يضيع جهدها في صنع المعمول المحشي بالجوز أو التمر هباء، أو أن تذكّر الفران بتحميره قليلاً، وألا يُحَمْي الفرن كثيراً حتى تبقى المعمولة طرية يمكن قضمها.
ولَم يقف الأمن الغذائي عند هذه الأشياء بل كانت هنالك ظاهرة مميزة. ففي ممارسة الزراعة، كان الناس يلجأون «للعونة» من أجل رش المبيدات، أو تحمير العنب، أو في المساهمة في جمع الحصاد، والدرس، وإيام الحرث، وقلابة الأرض، أو عند قطف الزيتون والتين والعنب وغيرها وتعبئته في سحاحير لأخذه للأسواق. ولو اعتمدت كل أسرة من هذه الأسر على نفسها فحسب، لما تمكنت من إنجاز المهام المطلوبة في وقتها ولضاع جزء كبير من المحصول سدى. هذا التعاون والتضامن هو الذي عظم الانتاج. والطريف هنا أن «العونة» لا تزيد ساعات العمل، ولكن تُنظم العمل لينجز عن طريقها. هكذا يتمكن كل مزارع من إنجاز عمله. أما لو بذلت نفس الساعات ولكن كل واحد قام بأداء المهام وحده أو مع أسرته فقط، فإن أحداً لن يستطيع إنجاز المهمة.
في ضوء هذه الترتيبات، نشأت الجمعيات التعاونية في الضفتين، ونجحت في قطاع الزراعة نجاحاً كبيراً. ولكن لما تحول الناس عن الزراعة، ودخلوا تجارة الأرض، وأصر كل وارث على أخذ حصة ليبيعها كي يتمتع بسعرها بدلاً من أن يشقى في زراعتها، ضاعت روح التضامن والتعاون، وسقطت المنظمة التعاونية، وتقلصت المساحات المزروعة، وأضحت غابات من الحديد والاسمنت.
اليوم أصبح عدد العاملين في الزراعة في الأردن لا يزيدون عن 5% وينتجون حوالي 5% من الناتج المحلي الاجمالي، ولكن أهمية الزراعة أكبر من ذلك بكثير. ولكن لا نشعر أن الزيادة الكبيرة في الانتاج الزراعي تحقق لنا تلك الكفاية المرجوة أو الشعور بالأمان.
كنّا ننتج في العشرينات والثلاثينات حوالي 70 ألف طن من القمح، يُستهلك منها الخُمس من الذين انتجوها، وخُمس آخر لسد حاجة السوق، والباقي في حدود 35-40 ألف طن كانت تُصدر للخارج، خاصةً إلى إيطاليا. وبالطبع لا ننسى في هذا السياق أن الأردن وسهول حوران كانت المصدر الأساسي للحبوب التي احتاجتها الامبراطورية الرومانية. ولكن اليوم ليس شبيهاً بالأمس، فنحن نستهلك الآن أكثر من مليون طن قمح في السنة، أو ما يساوي أربعين ضعفاً لما كنّا ننتجه في بداية تأسيس الإمارة. وكل خبزنا يباع في السوق ويشترى منه.
أنشأنا وزارة تموين لكي تُسعر الخبز وتضمن نوعيته وسعره العادل. وأنشأنا مطاحن لطحنه تعرَّض بعضها للإفلاس. وأُقيمت مئات الأفران لضمان حاجة الناس. وعند حصول أي حادث أو طارئ يهرع الناس للأفران فزعين بحثاً عن رغيف. وفِي عهد الكورونا رَكَّبْنا الخبز في الحافلات كي نوزعه على الناس، فصار مشهداً كوميدياً يدخل تحت باب «صدق أو لا تصدق».
يُنتج الأردن مليوني طن من المحاصيل الزراعية، حوالي نصفها بندورة وكوسا وخيار. والباقي محاصيل متنوعة. وقد تطورت تكنولوجيا الزراعة من البيوت البلاستيكية، إلى الري بالتنقيط والرشاشات، إلى استخدام الأسمدة والمبيدات بطرق حديثة. ولكننا لم نحل مشكلة الأمن الغذائي، بل ازدادت القضية تعقيداً.
هل نستطيع أن نتعلم مما كنّا عليه، لقد حللنا مشكلة النواقص الزراعية بالسليقة والفطرة عن طريق تصنيع الفائض في المنازل والحواكير والبساتين. كان المزارع يختار بطيخة أو شمامة أو قرعة أو كوساية من أجل أن تكبر وتمتلئ بالبذور الطبيعية التي يغرسها المزارع في العام التالي.
المطلوب الآن، وقد تحولنا من الاستهلاك الذاتي لانتاجنا إلى السوق. فلْنُنِمِّ الآن انتاج السلع بمواصفات محددة من أجل صناعات وغايات محددة ضمن عقود واضحة ملتزمة. فلندرب سيدات المنازل أن تزرع كثيراً من الخضار التي تحتاجها والفواكة التي ترغب في استهلاكها إلى زراعة داخل المطبخ بواسطة تكنولوجيا الزراعة في الماء » الهايدروبونيكس». ولنعد إلى استخدام الفوائض لكي نعيد إنتاجها لتكون قابلة للتخزين وفق آلية السوق.
وعلينا أن نرقى بصناعاتنا إلى أفضل جودة ممكنة حتى ندخل أسواق العالم، لكي نحول إنتاجنا الزراعي إلى مدخلات صناعية عالية الجودة توفر لنا الدخل الذي يكفينا لسد العجز في الميزان التجاري الغذائي.
وهذا يتطلب دعم البحث والتطوير والتدريب في الزراعة، وادخال المكننة على الانتاج حتى نوفر فرص عمل مجزية لأبنائنا وبناتنا. وعلينا خلق نظام توزيع للمنتجات الزراعية في المنازل التي ترغب في تحويلها إلى سلع مصنعة بالطرق المبتكرة في المنازل، وتوحيد مواصفات ومقاييس تلك السلع حتى يمكن تجميعها وبيعها ما يوفر دخولاً للأسر.
نستطيع بالاستفادة من دروس الماضي، وبتنظيم سلاسل التزويد، أن نخلق صناعات غذائية كبيرة بتقسيم العمل على وحدات إنتاجية منزلية تجعل لما يُنتج في المنازل قيمة واضحة تدخل في حساب الناتج المحلي الاجمالي.
هكذا نحقق الأمن الغذائي في القرن الحادي والعشرين.
الرأي