عن فلسطين التي نغفو في مراثيها!!
راكان المجالي
11-05-2010 06:31 PM
لم تتمكن "الفكرة العربية" ، بكل تنويعاتها السياسية الحديثة ، من احتواء أو صدّ "الفكرة الصهيونية ومشروعها" ، المتمثل في "دولة اسرائيل". بل ربما العكس هو ما حدث ، وربما شكل "مسار السلام "منذ مدريد "الرحم الوعائي الآمن" لهذا المشروع ، كي يقوم باندفاعته الكبرى في كل الاتجاهات لاحقا. اذ ما ان انسدت آفاق التكرار في "اتفاق أوسلو" ، ولاحت في الأفق ملامح سكة اقتحام الشرق الأمريكية ، في مطلع العقد الأول من الألفية الحالية ، حتى استعاد القطار الصهيوني زخم اندفاعته ، باعادة احتلال الضفة الغربية كاملة ، عشية الاحتلال الاميركي للعراق.
واليوم ، تمعن الدولة العبرية في تطبيق آخر تفاصيل التطهير العرقي للفلسطينيين في الجغرافيا الداخلية للمشروع ، عبر مجموعة قوانين أمنية وعسكرية كان آخرها القانونين 1649 1650و ، اللذين يستندان أصلا الى قانون مماثل صدر في العام ,1969 ولعل أسوا ما في هذه المرحلة هو "التساوق" ، الرسمي الفلسطيني والعربي ، المقصود منه وغير المقصود ، مع "المخرجات المتوافق عليها" ، بين جميع الأطراف ، كحلول اقليمية مدفوعة الثمن لقضايا الحل النهائي الأساسية.
وفي الأردن ، الدولة العربية الأقرب ، والأكثر تداخلا بشكل معقّد وتاريخي مع تفاصيل المأساة الفلسطينية ، يتم ترحيل "جوهر الأزمة" الصهيونية الى داخل النسيج الاجتماعي الأردني ، ثقافيا واجتماعيا وسياسيا ، على نحو يخلق سجالا بالغ السلبية والأذى ، ناهيك عن عدم جدواه بالنسبة الى القضية الفلسطينية الأساس ، فضلا عن حركة التفتيت المحورية التي يمارسها ذلك السجال لأدقّ مكونات النسيج الاجتماعي في البلاد.
ومن عادة أن أمورا كهذه لا تحدث من دون أن تتوافر على رعايات ، خارجية أوداخلية ، ما يعني انتقال فاعلية المشروع الصهيوني الى الداخل الاجتماعي العربي ، مجسّدا في عناصر داخلية عربية ، سواء أكانت مدركة ام غير مدركة ، ومن دون أن تجد تلك الفاعلية ما يصدها ، من الفكرة العربية أو في تفريعاتها. فالمشهد الأردني اليوم ، وعلاوة على ما يعاني ناسه من أزمات اجتماعية واقتصادية ، يجري سحبه وغمره في سجالات الجنسية ، والبطاقات الصفراء والخضراء ، وربطها مع اجراءات الاحتلال الأخيرة في الضفة الغربية ، بصيغة تقلب الموضوع برمته رأسا على عقب.
فتصبح المسألة ليست دعم الشعب الفلسطيني ضد اجراءات الاحتلال الرامية الى تهجيره وتطهيره عرقيا ، بل الدفاع عن هوية الأردن الوطنية ، عبر دعوات لسحب الجنسية الأردنية من مواطنين تقارب أعمار امتلاكهم لها عمر الدولة الأردنية تقريبا.
ليس هنالك بلدّ عربي ، أو شرق أوسطي ، لا تخضع هويته الوطنية ، سياسياً واجتماعياً وثقافياً ، إلى امتحان شديد ، ومنذ سنوات. وهو امتحان مرشحّ ، ولأسباب كثيرة ، إلى التحول إلى محنة ، نظراً لاستهانة العابثين بالفكرة ، سابقاً وحاليا ، واستسهال السياسيين لمسألة توظيفها والاستفادة منها ، خدمة لأزمات سياسية ، عابرة أو جذرية.
الطامحون للتغيير ، في الشرق الأوسط ، تنبهوا للأمر مبكراً ، فكانت فكرة الهوية الوطنية ، كفكرة منشئة وأساسية للأوطان العربية ، الباب العريض والأوسع ، لاستباحة أي تماسكْ في بلدان الشرق الأوسط ، بما فيها بلدان القارة العربية.
عربياً ، قامت فكرة الهوية الوطنية للبلد على هوية أولى ، تنتمي إلى عًرق أو قبيلة أو إثنية أو دين ، وعلى هويات ثانوية ، تنتمي إلى أعراق أو قبائل أو إثنيات أخرى. ما شكّل الأساس السياسي والثقافي ، للبلدان التي تشكلت بالانفصال عن الامبراطورية العثمانية ، المنهارة بعد الحرب الأولى.
وفي البلدان العربية ، ازداد الأمر تعقيداً بالخضات والإزاحات الاجتماعية ، نتيجة للحروب والانقلابات ومرحلة الاستقلال الوطني ، التي تلت تلك المرحلة. ومن أبرز تلك الخضات ما أفرزته القضية الفلسطينية من تبدلات اجتماعية ، في الجوار القريب وفي المحيط الأبعد.
وعلى الرغم من ذلك ، فإنّ أزمة الهوية الوطنية ، في البلدان العربية ، هي في الأصل سؤال قائم بذاته ، وتعود جذوره إلى الفكرة المنشئة له ، حتى وإن جرى ، في أكثر من حالة ، وضع وابراز الكتلة الاجتماعية الفلسطينية عنواناً لها ، بهدف اخفاء جوهر الأزمة ، أو القفز عنها ، أو تجنب مواجهتها بشكل جدي.
في العام الماضي ، قام الجنرال "ايلكير باشبوغ" ، رئيس هيئة الأركان التركية ، بإلقاء خطابه السنوي المعتاد. وبعكس ما كان متوقعاً أن يثيره الخطاب ، كالعادة ، من أزمة بين الجيش والحكومة ، عبر ما يتناوله من اختلافات سياسية بينهما ، بشأن هوية الدولة التركية. وهو ما لم يحدث هذه المرة ، على الرغم من أنه جاء ضمن احتفالات تركيا ، بمئوية أول انقلاب عسكري في الشرق الأوسط ، الذي أطاح بالسلطان عبدالحميد الثاني ، ومهّد الطريق للإطاحة بالسلطنة العثمانية كلها ، بعد الانقلاب بسنوات قليلة. وبقدر ما كان خطاب الجنرال باشبوغ تلميحاً ، إلاّ أنه كان مباشراً وصريحاً. فلأول مرة يتحدث القائد العسكري للجيش التركي عن "هوية تركيا" ، وليس عن "الهوية التركية".
واستخدم تعبير "شعب تركيا" بدلاً من "الشعب التركي" ، ما يعني نسبة الهوية إلى البلد والوطن الجامع ، لكل الأعراق والمكونات ، وليس إلى العًرق التركي. وكذلك نسبة الشعب إلى "تركيا الوطن" ، وليس نسبة الوطن إلى فئة من الشعب ، أي مغادرة ذهنية "مركزية العًرق المؤسس للهوية الوطنية".
قيمة هذا الكلام ، في تركيا ، أنه يأتي من رأس المؤسسة العسكرية ، التي ما تزال تمسك بمفاصل تكوين الدولة التركية الحديث. وهو كلام لم يأت ارتجالاً ، بل ضمن حوارات وتفاعلات طويلة وعميقة ، في سعي تركيا لإعادة إنتاج ذاتها ، من الداخل ، لتتمكن من رسم مكانتها العالمية من جديد ، في عالم يتفسخ جسده عن جلد أفكاره المكونة لعالمه القديم.
ومن وحي كلام باشبوغ ، هل يمكن عربياً التساؤل عمّا نريد فعلاً: هوية الوطن.. أم الهوية الوطنية؟، ، بعد أن قمنا بامتهان المفهوم ، من كثرة استهلاكه ، سواء في سياقاته الصحيحة أو الخاطئة..،.
يا لبؤس هذه "الفلسطين" ، التي سهرت طويلا في أحلامنا وفي مراثينا ، وبا لبؤسنا العربي ونحن نرتدّ عليها في تفاصيل محنتها ومحنة ابنائها ، مرتدين "قمصان عثمان عصرية" ، وفي الأثناء نمحو بخطايانا كل ما كتبناه فيها من مدائح وتمجيد ومراثْ..، أما ما تبقّى لنا من أوطان بعدها ، فقطرة مطر يهرب منها مواطنوها. بلا نشوة ولا خشية من البلل. تحملهم أفكار وألغاز كافية لصنع متاهة. قد يكون المشهد الجمالي مدهشا ، للمتأمل من بعيد ، غير ان الانتظار ، إلى أن يهدأ المطر ، لا يوصل أحدا إلى "أوطان بديلة". فالساكنون ، مؤقتا ، في أكواخ "الفكرة العربية" ، ينهك عظامهم الانتظار ، وتأكل أرواحهم الهشة خيوط الحنين.
يقيمون ولا يسكنون. يستوطنون ولا يتوطّنون. يجنّسون ولا يتجانسون. يتآنسون ولا يأنسون. أما أوطانهم الفعلية ، التي كانت وطنا واحدا ، فتغرق في قطرة ماء ، عجزت ، طوال مئة عام ، عن أن تبقى معلقة في الهواء لتكسر طيف الشمس في وضح النهار،.
عن الدستور.