يجسد عز الدين المناصرة خير تجسيد لنموذج العلاقة الأردنية الفلسطينية المتشابكة المعقدة، بكل ما تحمله من تناقض أو توافق، كما يشكل رمزاً من رموز التشتت والالتئام، والائتلاف والاختلاف، والفرقة والترابط، والهجرة والعودة، والخصام والوئام، ليس على المستوى الأردني الفلسطيني أو العربي فحسب، بل ينسحب الأمر على المستوى الإنساني، وها أنا حائر، عن أي عز الدين أتحدث، الشاعر أم الثائر، من أرثي في رثائي؛ فدائي، أم قمة من قمم جبالي، أم عاشق لم يقل لمحبوبته يوماً: تِلك فِعالي، من أرثي يا رب؛ عز الدين المناصرة، أم تراني أرثي لكم ضعف وصالي.
العشق يأخذني إلى قلب عاشق جفرا، جفرا النابلسي، الطالبة في الجامعة الأميركية في بيروت، عشقها المناضل المثقف، والشاعر المتمرد، "قلت له: صف لي جفرا؟ قال: كيف أصفها لك؟ قلت: قل لي ما الذي جعلك تحبها ؟ ضحك وقال: قلبي، قلت: لا تهرب، قل لي الحقيقة، ما الذي أعجبك في جفرا؟ نظر إلي، ابتسم وقال: هل تريد الحقيقة؟ قلت: بالطبع، قال: أحببت دماثتها".
هل رأيتم السحر في عشق الشعراء، أي رقة هذه، أي شاعرية، وأي رجولة، إنه مذاق شاعر، سيسخر منه بالطبع محب تافه يقول: وماذا سأستفيد من دماثتها، أي متعة تجلبها لي دماثة أنثى ؟ الآخر يتحدث عن العينين والصدر والشفتين، وعاشق جفرا عشق دماثتها وقال لها: أتمنى أن أراك يوماً وأنت ترتدين ثوباً فلسطينياً، سافرت جفرا في إجازتها الصيفية إلى أهلها في سوريا، وعادت إلى بيروت ترتدي له ثوب نساء أنجبنه تحت دالية عنب في قرية بني نعيم من قضاء الخليل، وهو من تغزل بعنب الخليل:
الشهد في عنب الخليل
وعيون ماء السلسبيل
هي إرث جيل بعد جيل
وكفاح تاريخ طويل
مرت الأيام ليصحو المناضل المثقف على خبر تفجير وقع على حاجز في الحازمية، أول بلدات الجبل، وهو نفس المكان الذي استشهد فيه غسان كنفاني، فتح عز الدين الصحيفة ليقرأ اسم محبوبته من بين الشهداء : جفرا النابلسي، فغرق في الحزن، فقد الوطن، وفقد المحبوبة، وما أصعب فقدان المحبوبة بعد فقدان الوطن، والمرأة عند الفلسطيني وطن، وبديلاً للوطن، وطن يعوض الرجل عن لذة فقدان الوطن، ترى بعض الرجال بنادي على زوجته: "شو بتسوي، تعالي"، وعندما تأتي إليه وتسأله عن حاجته، يقول: لا شيء، تعالي أقعدي"، إنه يريدها قريبة لصيقة، إنه يكره الغياب، ومن رحم هذا الحزن جاءت جفرا؛ غابة البلوط، ورفيف الحمام، وقصائد الفقراء:
من لم يعرف جفرا
فليدفن نفسه
من لم يعشق جفرا
فليشنق نفسه
فليشرب كأس السّم الهاري
...
لم أرفع صارية ، إلا
قلتُ: فِدى جفرا
جفرا الوطن المسبي
الزهرة والطلقة
والعاصفة الحمراء
عمل المناصرة مديراً للبرامج الثقافية في الإذاعة الأردنية بين الأعوام ١٩٧٠ وحتى ١٩٧٣، أسس خلال تلك الفترة مع مجموعة من المثقفين الأردنيين رابطة الكتاب، وربطته علاقة صداقة حميمة بتيسير سبول، وعلاقات مع زملائه في الهيئة الإدارية للرابطة من أمثال الدكتور محمود السمرة، وعيسى الناعوري، ومحمود سيف الدين الإيراني، وعدي مدانات، وغيرهم، قبل أن يصدر له من الجهات الأمنية قراراً بالإبعاد عن الأردن في أعقاب تداعيات عام ١٩٧٠، فقد تقرر إبعاده إلى تنزانيا، قلت: تنزانيا؟ فانفجر في الضحك، قال نعم، قالوا لي، لا بد وأن تجد أحداً من أقاربك أو معارفك هناك، ولكن حدثاً وقع له في المطار وهو يغادر، رفع عنه مشاعر الضيق، إذ اقترب منه ضابط وسأله: هل أنت عز الدين المناصرة؟ قال: نعم، وعندها سأله: لماذا تريد الذهاب إلى تنزانيا؟ قال: هذا هو القرار، فصمت الضابط برهة ثم قال: أين تريد الذهاب؟ قال: إلى أي مكان غير تنزانيا، قال: هل مصر تناسبك؟ قال: يا ريت، فتولى الضابط كل الإجراءات اللازمة وودع عز الدين معانقاً على مدخل الطائرة.
قال لي "أبو كرمل": كنت أحب دوماً وأنا أعود بذاكرتي إلى الأردن، أن أتذكر المشهد الأخير، وعناق الضابط لي على مدخل الطائرة، وهكذا تنقل المناصرة بين بيروت والجزائر قبل أن تعرض عليه الدولة الأردنية العودة، فوافق، ومنحته الدولة الجنسية، وأقام في عمان منذ عام ١٩٩١، وحصل على جائزة الدولة التقديرية عام ١٩٩٥، وهو العام الذي التقيت فيه الرجل لأول مرة، فأحبني وأحببته، ونحن نستذكر معاً نفس المدرسة، والدالية، وبلوطة إبراهيم، وحضرة إبراهيم، ودرج الحرم، و"الكُسبِة"، والحِسبة، وحارة القزازين، وأفران القدر، ورائحة الطوابين، وأوشام الكنعانيات، وبصبصات المراهقة، والزبيب، والملبن، ومعاجن الفخار.
رحل شاعر، وأكاديمي، ومفكر، ومناضل، أردني ولد في بني نعيم، وفلسطيني دفن في عمان التي سكنها وسكنته .
برحيل عز الدين المناصرة، خسرت السماء نجمة، وأخذت روحها.