في وقتٍ كانت المشروعات الفكرية تتنافس في العالم العربي، في القرن التاسع عشر مروراً في القرن العشرين، من محاولات تحديث الدولة العثمانية إلى أفكار النهضة والإصلاح (جمال الدين الأفغاني، محمد عبده)، وصولاً إلى المشروعات الأيديولوجية الطموحة؛ الإسلام السياسي، القومية العربية بتفرّعاتها، الشيوعيين، وغيرهم، فإنّنا اليوم لا نكاد نقف، لا على صعيد الأنظمة السياسية، ولا على صعيد المدارس الفكرية العربية، على مشروعات نهضوية فوق قُطرية أو حتى قُطرية، تمتلك القدرة على تعبئة الشارع وتحريضه وتطوير خطاباتٍ فكريةٍ قادرةٍ على الإجابة على التحدّيات العاصفة في المنطقة، وفي كل دولة على حدة.
في مقابلات أجريتها مع شباب أردنيين تأثروا بأفكار تنظيم داعش خلال الأعوام الماضية، بعد أن خرجوا من السجون، أو عادوا من ساحات القتال هناك، لفت انتباهي جواب أحد هؤلاء الشباب، وهو على قدر من المعرفة العلمية والدينية، ويحمل شهادة دراسات عليا، على سؤالي: ما هو المغري لجيل من الشباب، بخاصة الجامعيين والمثقفين والمتعلمين في فكر هذا التنظيم؟ أجابني: بأنّه (داعش) يمتلك مشروعاً حقيقياً على الأرض، في وقتٍ لم نجد أحداً من الدول العربية يقدّم مثله للشباب العربي، وفي وقت كانت إيران تمدّ نفوذها من طهران حتى البحر المتوسط، وملايين العرب يواجهون سؤالاً وجودياً، لم يجدوا طرفاً قوياً لديه الجرأة في استخدام القوة، ويقدّم أوراق اعتماده للملايين، بوصفه من يملك الوقوف في وجه التحدّيات المحيطة.
من وجهة نظري (كما حال أغلبية النخبة السياسية العربية المعارضة قبل المؤيدة) هو مشروع عدمي وكارثي، ولم يؤدّ إلا إلى مصائب أكبر، لكنه، من زاوية أخرى، نتيجة طبيعية لحالة الفراغ الحاصلة في المنطقة العربية، بخاصة بعد أحداث الربيع العربي.
الطريف أن صاحبنا ذكّر بإطاحة الرئيس المصري الراحل، محمد مرسي، كإنهاء لمشروع الإسلام السياسي الديمقراطي، بعد أن كان بعضهم يردد أنّ أسامة بن لادن دفن في ميدان التحرير، كناية عن أن الانتفاضات العربية أنهت مبرّرات "القاعدة"، والأسس التي قام عليها خطاب هذا التنظيم. وكانت قيادات "القاعدة" قد وقعت، فعلا، في الارتباك خلال تلك اللحظات حينما أصدر قادتها، كالظواهري وأبي يحيى الليبي وأنور العولقي، مقالاتٍ في محاولة للتكيّف مع التغيرات الجوهرية التي أحدثها الربيع العربي، قبل أن نعود جميعاً إلى المربع الأول، بعد الثورة المضادة والانقلاب على ذلك الحلم الشعبي القديم.
بالضرورة، حمل الربيع العربي أحلام وآمال الخلاص والانتقال إلى مرحلة جديدة عربية، بعدما برز فشل السلطوية العربية، وحدثت تغييراتٌ جوهريةٌ في المجتمعات، وربما كان في وسع مشروعه أن يقدّم حلولاً أو آفاقاً جديدة، بدلاً من محاولات القمع السلطوية والإصرار على العودة إلى الوراء، من دون إدراك عجز الديناميكيات السابقة عن مجاراة التغيرات المجتمعية والثقافية الكبيرة، أو الوقوع فريسةً لمشروعات التطرّف الديني التي قدّمها تنظيم داعش.
الآن الجميع عالق في اللحظة الراهنة، فالأنظمة التي غرقت في بحور الأزمات الداخلية العميقة، وتعمّقت جراحها مع وباء كورونا، غير قادرةٍ على تقديم المشروع المستقبلي، بينما غالبية الأحزاب والقوى السياسية التقليدية لا تزال رهينةً لخطابٍ مرتبط هو كذلك بالمرحلة السابقة، أي الصراع مع الأنظمة العربية، ولم تستطع تلك القوى أن تحرّر فكرها وخطابها من تلك العقلية وتطور خطاباً جديداً يستجيب للمرحلة غير المسبوقة من التحدّيات الهائلة.
بالنتيجة، نرى في حوارات النخب السياسية والمثقفة العربية غالباً اليوم ابتعادا غريبا عن مناقشة الأولويات والتحديات العاصفة الكبرى لدولهم ومجتمعاتهم، وكأنّها تمارس لعبة الالتهاء بمعارك صغيرة تجنباً للأسئلة الكبرى (بطالة، فقر، قمع، تهميش السلم المجتمعي، انهيار السلم الأخلاقي، الدخول في حروب داخلية، وجيل من الشباب يتعرّض لضغوط شديدة من دون القدرة على تحقيق أساسيات الحياة).
أصبحت خطابات بعض المعارضات العربية مقلقة أكثر من خطاب السلطويات، وفي كلا الطرفين ثمّة نزق فكري وحضاري مفجع، بينما كانت المناظرة التي أسّسها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وبعدهم مالك بن نبي، تتحدّث عن شروط النهضة والإصلاح الديني والتحرّر من القوى الخارجية، أصبحت المناظرات التي تشغل الجميع صغيرة جداً، أقرب إلى مناكفات شخصية أو سياسية ضيقة.
(العربي الجديد)